السينما في صراع مع الخوارزميات: المخرجون يتحدون قواعد منصات البث
شهدت صناعة السينما، لا سيما في هوليود، تحولًا جذريًا خلال السنوات الأخيرة، مع صعود المنصات الرقمية للبث مثل نتفليكس وأمازون برايم وديزني بلس. لم تعد هذه المنصات مجرد وسيلة لعرض الأفلام والمسلسلات، بل تغلغل نفوذها ليحدد طبيعة المحتوى الذي يصل إلى الجمهور. فاليوم، لا تُصنع الأعمال السينمائية بالضرورة من وحي رؤية فنية خالصة، بل تتشكل بشكل متزايد وفقًا لتحليلات البيانات المعقدة والخوارزميات الدقيقة التي باتت تتحكم في جوانب جوهرية كمدة الفيلم، أفكاره، وحتى النهايات المفضلة للمشاهدين، مما أثار موجة من التمرد بين المخرجين المطالبين باستعادة زمام الإبداع. هذا التطور يمثل نقطة تحول حاسمة في العلاقة بين الفن والتكنولوجيا، ويثير تساؤلات حول مستقبل السرد السينمائي.

خلفية التحول الرقمي في صناعة السينما
قبل عقد من الزمان، كان عرض الأفلام مقتصرًا بشكل كبير على دور السينما التقليدية ثم قنوات التلفزيون وشبكات الكابل. لكن مع التقدم التكنولوجي وسرعة الإنترنت، بدأت منصات البث الرقمي بالظهور بقوة، مقدمةً نموذجًا جديدًا للاستهلاك الإعلامي. هذه المنصات، التي توفر مكتبات ضخمة من المحتوى حسب الطلب، جذبت ملايين المشتركين بفضل سهولة الوصول والتنوع الكبير. وقد تسارعت وتيرة هذا التحول بشكل ملحوظ خلال جائحة كوفيد-19، حيث أغلقت دور السينما وأصبحت الشاشات المنزلية هي النافذة الوحيدة للمتعة السينمائية. هذه الفترة عززت من مكانة منصات البث كقوة مهيمنة في توزيع وإنتاج المحتوى، مما نقل مركز الثقل من الاستوديوهات التقليدية إلى هذه الكيانات التكنولوجية.
سيطرة الخوارزميات على المحتوى الإبداعي
في قلب هذا التحول يكمن الدور المتنامي للخوارزميات. تستخدم منصات البث هذه الخوارزميات لجمع وتحليل كميات هائلة من بيانات المستخدمين: ما يشاهدونه، ما يتوقفون عن مشاهدته، الوقت الذي يقضونه في كل عمل، أنواع القصص التي يفضلونها، وحتى المشاعر التي تثيرها فيهم مشاهد معينة. بناءً على هذه البيانات، تقدم الخوارزميات توصيات للمشاهدين، وتؤثر أيضًا بشكل مباشر على قرارات الإنتاج. على سبيل المثال، قد تشير البيانات إلى أن الجمهور يفضل أفلامًا بمدة معينة، أو نهايات سعيدة، أو أنواعًا معينة من الشخصيات. هذا الواقع دفع بالمنصات إلى توجيه كتاب السيناريو والمخرجين نحو إنتاج محتوى “مُحسّن للخوارزميات”، يضمن أقصى قدر من التفاعل والاحتفاظ بالمشاهدين، حتى لو كان ذلك على حساب الأصالة الفنية أو الرؤية الإبداعية للمخرج. يشمل ذلك تأثيرًا على اختيار المواضيع، وبناء الحبكة، وتطوير الشخصيات، وصولًا إلى التسويق المستهدف.
تمرد المخرجين ودعواتهم لاستعادة الرؤية الفنية
لم يمر هذا التغيير دون مقاومة من قبل صانعي الأفلام. عبّر العديد من المخرجين والكتاب والمنتجين عن قلقهم المتزايد إزاء فقدان السيطرة الإبداعية. فبدلاً من أن يكون الفيلم تعبيرًا عن رؤية فنان فريدة، أصبح يُنظر إليه كمنتج يجب أن يلبي مجموعة من المعايير الرقمية. تكمن مخاوفهم في عدة نقاط رئيسية:
- تنميط المحتوى: الخوف من أن تؤدي الخوارزميات إلى إنتاج محتوى متشابه ومفتقر للتنوع، حيث يتبع الجميع نفس الصيغ “الناجحة” المعتمدة على البيانات.
 - تآكل الأصالة الفنية: تحويل عملية الإبداع من استكشاف فني إلى معادلة رقمية تهدف إلى تحقيق أقصى قدر من المشاهدات والاحتفاظ بالمشتركين.
 - التحكم في السرد: شعور المخرجين بأنهم مجرد أدوات لتنفيذ رؤى تعتمد على البيانات، بدلاً من أن يكونوا قادة للعملية الإبداعية.
 - التأثير على التجربة السينمائية: الابتعاد عن إنتاج أفلام تتطلب تفكيرًا عميقًا أو تحديًا للجمهور، والتوجه نحو محتوى يسهل استهلاكه بسرعة.
 
مخرجون بارزون مثل مارتن سكورسيزي وكريستوفر نولان وغيرهم، وإن لم يذكروا الخوارزميات بشكل مباشر دائمًا، فقد انتقدوا صراحة النموذج التجاري لمنصات البث الذي قد يقلل من قيمة التجربة السينمائية الفنية أو يقصر من العمر الافتراضي للأعمال. تبرز هذه الدعوات الحاجة الملحة إلى إيجاد توازن بين الابتكار التكنولوجي والحفاظ على جوهر الفن السينمائي.
التداعيات المستقبلية على الفن السينمائي
إن هذا الصراع بين الرؤية الفنية والتحليلات الخوارزمية له تداعيات عميقة على مستقبل السينما كفن وصناعة. فمن جهة، توفر منصات البث فرصًا غير مسبوقة للمخرجين المستقلين والأصوات الجديدة للوصول إلى جمهور عالمي دون قيود التوزيع التقليدية. ومن جهة أخرى، هناك خطر حقيقي لفقدان التنوع والجرأة الفنية إذا استمرت الخوارزميات في توجيه دفة الإنتاج بشكل مطلق.
يمكن أن يؤدي الاعتماد المفرط على البيانات إلى:
- تقليل المخاطر الإبداعية، حيث يتم تجنب القصص غير التقليدية أو المعقدة التي قد لا تتناسب مع تفضيلات الجمهور “المتوسط”.
 - تركيز أكبر على الإنتاجات الضخمة “الآمنة” التي تضمن أعداد مشاهدات عالية، على حساب الأفلام الفنية الصغيرة أو التجريبية.
 - خلق “فقاعات تصفية” للمشاهدين، حيث لا يُعرض عليهم سوى ما يتناسب مع عاداتهم السابقة، مما يحد من فرص اكتشاف أعمال جديدة ومختلفة.
 
تتطلب هذه المرحلة الجديدة من الصناعة حوارًا مستمرًا بين التكنولوجيا والإبداع، ومعالجة التساؤلات حول من يمتلك السلطة النهائية في تحديد شكل الفن المستقبلي. إن قدرة السينما على أن تكون مرآة تعكس الواقع وتثير التفكير، قد تكون على المحك إذا ما أصبحت مجرد نتاج لمعادلات رياضية.
خاتمة
في الختام، يمثل التمرد الحالي للمخرجين على قواعد منصات البث الرقمي صرخة مدوية لاستعادة الروح الإبداعية للسينما. إنه ليس رفضًا للتكنولوجيا بحد ذاتها، بل دعوة إلى التفكير في كيفية استخدام هذه التكنولوجيا لخدمة الفن وليس للسيطرة عليه. يبقى السؤال الأهم: هل ستجد صناعة السينما توازنًا يضمن الاستفادة من قوة التوزيع الرقمي دون التضحية بالرؤية الفنية التي شكلت هذا الفن على مدى قرن من الزمان؟ هذا الصراع الدائر، الذي يتجلى في أروقة هوليود وعبر صناعات السينما العالمية، سيحدد بلا شك ملامح المشهد الثقافي والترفيهي لسنوات قادمة.





