الدبلوماسية الثقافية عبر الأزياء: قصة "الأو داي" الفيتنامي في روسيا

شهدت العاصمة الروسية موسكو حدثاً ثقافياً بارزاً خلال مهرجان فيتنام الثقافي لعام 2025، الذي أقيم على مدار عشرة أيام، ابتداءً من الخامس والعشرين من يوليو وحتى الثالث من أغسطس. جاء هذا المهرجان احتفالاً بالذكرى الخامسة والسبعين لتأسيس العلاقات الدبلوماسية بين جمهورية فيتنام الاشتراكية وجمهورية روسيا الاتحادية، مؤكداً على عمق الروابط التاريخية والثقافية التي تجمع البلدين. كان جوهر المهرجان هو عرض أزياء "الأو داي" (Ao Dai)، الزي الوطني الفيتنامي التقليدي، الذي أقيم في قاعة خاصة مهيبة، ليتحول إلى تجسيد حي لمفهوم الدبلوماسية الثقافية حيث تلتقي الفنون والتراث لتعزيز التفاهم المشترك.

كان أبرز ما لفت انتباه الحضور، لا سيما الجالية الفيتنامية في الساحة الحمراء، هو ظهور عارضات أزياء روسيات يرتدين قطع "الأو داي" الفيتنامية التقليدية على المسرح. هذا المشهد لم يمثل مجرد عرض أزياء، بل كان بياناً ثقافياً قوياً، يعكس قدرة الأزياء على تجاوز الحدود الجغرافية والثقافية، ويجسد الاحترام المتبادل والتقدير لجمال وتراث كل أمة. إن ارتداء سيدات روسيات لزي فيتنامي أصيل يرمز إلى التبادل الثقافي الصادق والانفتاح الذي يميز العلاقات بين الدولتين.

الخلفية التاريخية للعلاقات الفيتنامية-الروسية

تمتد جذور العلاقات الدبلوماسية بين فيتنام وروسيا (الاتحاد السوفيتي سابقاً) إلى عام 1950، عندما أقام البلدان علاقات رسمية. على مدى العقود السبعة ونصف الماضية، تطورت هذه العلاقات لتشمل مجالات واسعة تتجاوز التعاون السياسي والاقتصادي لتصل إلى التبادل الثقافي والتعليمي والعسكري. كانت روسيا، ولا تزال، شريكاً استراتيجياً مهماً لفيتنام، وساهمت بشكل كبير في بناء قدراتها الاقتصادية والدفاعية بعد الاستقلال. وقد شهدت هذه العلاقات فترات من الدعم القوي والتعاون الوثيق، مما رسخ مكانة البلدين كصديقين وحليفين على الساحة الدولية.

تعد الذكرى الخامسة والسبعون لتأسيس هذه العلاقات فرصة لإعادة تأكيد الالتزام المتبادل وتعزيز الشراكة المستقبلية. تأتي المهرجانات الثقافية مثل هذا الحدث لتعمل كجسر حي، يذكر الأجيال الشابة بتاريخ الصداقة العميقة، ويفتح آفاقاً جديدة للتعاون الشعبي، بعيداً عن البروتوكولات الدبلوماسية الرسمية. فهي تتيح للناس فرصة للانغماس في ثقافة الآخر وتقاليدها، مما يعمق التفاهم والاحترام.

"الأو داي": رمز فيتنامي متجذر في التاريخ

يُعد "الأو داي" (Ao Dai) أكثر من مجرد زي؛ إنه رمز حي للتراث الثقافي الفيتنامي. يتألف الزي التقليدي من فستان حريري طويل مشقوق من الجانبين، يُلبس فوق بنطال فضفاض. يعكس تصميمه البساطة والأناقة، ويبرز جمال القوام بطريقة محتشمة. على مر العصور، تطور "الأو داي" من أشكال مختلفة من الملابس الفيتنامية التقليدية، ليصبح في القرن العشرين رمزاً للجمال الأنثوي، والأناقة الوطنية، والهوية الفيتنامية. لا يزال يُرتدى في المناسبات الرسمية، وحفلات الزفاف، والاحتفالات، وحتى كزي مدرسي في بعض المناطق، مما يؤكد مكانته الراسخة في الحياة اليومية والفنية.

إن قدرة "الأو داي" على التكيف مع التغيرات الاجتماعية مع الحفاظ على جوهره جعلته أداة قوية في الدبلوماسية الثقافية. فعندما يُعرض في المحافل الدولية، فإنه يحمل معه ليس فقط قطعة قماش، بل قصة شعب، وفناً، وتاريخاً. إنه يمثل فيتنام بكل فخر واعتزاز، ويقدم لمحة عن روح الأمة الثقافية.

إبداعات المصمم فو فيت ها وتأثيرها

في قلب هذا الاحتفال الفني، كان المصمم الفيتنامي فو فيت ها هو العقل المدبر وراء مجموعة الأزياء المعروضة. صرح ها بأنه أحضر مجموعتين خاصتين إلى روسيا، كلتاهما تحملان رسائل عميقة وتفاصيل فنية غنية:

مجموعة "هانوي 12 زهرة" (Hanoi 12 Flowers): تُعيد هذه المجموعة إحياء تجارب بصرية فريدة لكل شهر من أشهر السنة، حيث ترتبط كل زهرة نموذجية بذكريات سكان هانوي العريقة وثقافتها الغنية. تعكس هذه الأزياء تنوع الطبيعة والتقاليد الفيتنامية على مدار العام، وتقدم قصة بصرية عن الحياة اليومية والاحتفالات في العاصمة الفيتنامية. إنها تحتفي بجمال الفصول وتعكس الروح العميقة لهانوي.
مجموعة "الأو داي" بأسلوب ثلاثينيات القرن الماضي: تُقدم هذه المجموعة رؤية مستوحاة من الأناقة الكلاسيكية لعقود سابقة، حيث تُظهر أن "الأو داي" ليس مجرد موضة عابرة، بل يحمل أيضاً جوهر التطريز والنسيج في القرى الفيتنامية التقليدية. تُسلط هذه الأزياء الضوء على مهارة الحرفيين الفيتناميين ودقة فنون النسيج اليدوية، مما يؤكد على أهمية الحفاظ على التراث الحرفي وتطويره.

إن عمل المصمم فو فيت ها يتجاوز مجرد تصميم الملابس؛ فهو يروي قصصاً ويقدم رؤى ثقافية، مما يجعل مجموعاته وسيلة فعالة للتبادل الثقافي. استطاع أن يلهم الجمهور الروسي والأجنبي بجمال ومرونة "الأو داي"، ويبرز قدرته على التطور مع الحفاظ على هويته.

الأزياء كأداة للقوة الناعمة والدبلوماسية

يُعد استخدام الأزياء في الدبلوماسية الثقافية مثالاً ساطعاً على مفهوم "القوة الناعمة"، حيث تسعى الدول إلى تعزيز نفوذها ومكانتها العالمية من خلال الجاذبية الثقافية بدلاً من الإكراه العسكري أو الاقتصادي. تُمكن هذه الاستراتيجية الدول من بناء علاقات ودية، وتعزيز التفاهم المتبادل، وتصوير صورة إيجابية عن نفسها على الساحة الدولية.

في حالة مهرجان فيتنام الثقافي في روسيا، لم يكن عرض "الأو داي" مجرد فعالية ترفيهية، بل كان محاولة مدروسة لـ:

تعزيز الهوية الوطنية: تقديم "الأو داي" كرمز فيتنامي مميز يساعد على ترسيخ الهوية الوطنية في أذهان الجمهور العالمي.
بناء الجسور الثقافية: تشجيع التفاعل والتقدير المتبادل للثقافات بين الشعوب، وخاصة بين فيتنام وروسيا.
دعم الصناعات الإبداعية: تسليط الضوء على المواهب الفيتنامية في التصميم والحرف اليدوية، مما يفتح آفاقاً جديدة للتعاون الاقتصادي والثقافي.
تعميق العلاقات الدبلوماسية: تذكير بالروابط التاريخية وتعزيز الصداقة من خلال الاحتفالات المشتركة بالذكريات الهامة.

لقد أثبتت الدبلوماسية الثقافية مراراً وتكراراً فعاليتها في إضفاء الطابع الإنساني على العلاقات الدولية وتجاوز الحواجز السياسية، وتُقدم الأزياء منصة فريدة لتحقيق ذلك بأسلوب فني وجذاب.

الآثار والتطلعات المستقبلية

لقد ترك مهرجان فيتنام الثقافي في موسكو أثراً إيجابياً عميقاً، ليس فقط على الحضور، بل وعلى مسار العلاقات الثنائية بين فيتنام وروسيا. يؤكد نجاح هذا الحدث على أن التبادل الثقافي يظل ركيزة أساسية لتعزيز الروابط الدبلوماسية والشعبية. يمكن لمثل هذه الفعاليات أن تلهم المزيد من المبادرات المشتركة في المستقبل، بما في ذلك التبادل الطلابي، والمعارض الفنية، والمشاريع التعاونية في مجالات العلوم والتكنولوجيا.

في عالم يزداد ترابطاً، تُعد الدبلوماسية الثقافية عبر الأزياء وسيلة حيوية لمد جسور التفاهم والتقدير المتبادل بين الأمم. فكما أظهر عرض "الأو داي" في الساحة الحمراء، يمكن لقطعة قماش أن تروي قصة أمة بأكملها، وأن تُسهم في نسج علاقات أقوى وأكثر ديمومة على المستوى الدولي.