القلق الأوروبي يتجاوز روسيا: دعوة لدفاع مشترك وفق مستشارة بالناتو
في تصريحات حديثة لها، ألقت الدكتورة كاميلا زاريتا، وهي مستشارة مرموقة لكل من الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، الضوء على الطبيعة المتعددة الأوجه للمخاوف الأمنية الأوروبية. وقد أشارت زاريتا إلى أن القلق المتصاعد في القارة لا يقتصر فقط على التهديد الذي تمثله روسيا، بل يمتد ليشمل طموحًا أوسع نطاقًا ورغبة عميقة لدى الدول الأوروبية في بناء منظومة دفاع مشترك قوية. هذه الرغبة تهدف إلى تعزيز الأمن الجماعي وتزويد القارة بشعور مستقر بالاطمئنان والقدرة على حماية مصالحها.

السياق التاريخي والجيوسياسي
يمكن فهم هذه الدعوة إلى الدفاع المشترك في سياق التحولات الجيوسياسية الكبرى التي شهدتها أوروبا على مدار العقود الماضية. فبعد انتهاء الحرب الباردة، شهدت العديد من الدول الأوروبية تخفيضًا في إنفاقها الدفاعي، معتمدة بشكل كبير على المظلة الأمنية التي يوفرها حلف الناتو، وعلى وجه الخصوص الالتزام الأمريكي بالدفاع عن أوروبا. ومع ذلك، بدأت هذه المعادلة تتغير بشكل ملحوظ بعد عام 2014، إثر ضم روسيا لشبه جزيرة القرم وتصاعد التوترات في شرق أوروبا.
كان الغزو الروسي واسع النطاق لأوكرانيا في فبراير 2022 بمثابة نقطة تحول حاسمة، حيث أعاد إيقاظ القارة على واقع الحاجة الملحة لتعزيز قدراتها الدفاعية الذاتية. هذا الحدث لم يسلط الضوء فقط على التهديد التقليدي الذي يمكن أن تشكله روسيا، بل كشف أيضًا عن تحديات أوسع تتعلق بالاستعداد العسكري، وكفاءة الصناعات الدفاعية، والحاجة إلى تنسيق أكبر بين الجيوش الأوروبية. أصبحت المناقشات حول "الاستقلالية الاستراتيجية" الأوروبية أكثر إلحاحًا، ليس كبديل للناتو، بل كعنصر مكمل لتعزيز الشق الأوروبي داخل الحلف.
الدوافع وراء الرغبة في الدفاع المشترك
إن الرغبة الأوروبية في بناء دفاع مشترك تتجاوز التهديد الروسي لأسباب متعددة:
- الاستقلالية الاستراتيجية: تسعى أوروبا إلى أن تكون قادرة على اتخاذ إجراءات مستقلة عندما تتطلب المصالح الأوروبية ذلك، سواء كان ذلك في إطار الناتو أو خارجه. هذا لا يعني الانفصال عن الحلف، بل القدرة على تحمل جزء أكبر من المسؤولية عن أمنها.
- تهديدات متطورة ومتنوعة: التحديات الأمنية الحديثة لم تعد تقتصر على الصراعات العسكرية التقليدية. تشمل هذه التهديدات الحروب الهجينة، والهجمات السيبرانية، والإرهاب، وحتى التداعيات الأمنية لتغير المناخ. تتطلب هذه التهديدات استجابة شاملة ومتكاملة لا يمكن تحقيقها إلا من خلال التعاون الوثيق.
- مستقبل الالتزام الأمريكي: هناك قلق متزايد بشأن التقلبات المحتملة في السياسة الخارجية الأمريكية ومدى التزامها المستقبلي طويل الأمد تجاه الأمن الأوروبي. هذا يدفع الدول الأوروبية إلى تعزيز قدراتها الخاصة لضمان مرونتها وقدرتها على الصمود.
- تعزيز القاعدة الصناعية الدفاعية: تهدف الجهود الأوروبية أيضًا إلى تطوير قاعدة صناعية دفاعية أوروبية قوية وموحدة، مما يقلل من الاعتماد على الموردين الخارجيين ويعزز الابتكار والتنافسية داخل القارة.
التطورات الحالية والمبادرات الأوروبية
استجابة لهذه المخاوف والدوافع، شهدت السنوات الأخيرة تفعيل العديد من المبادرات والآليات الأوروبية لتعزيز التعاون الدفاعي. من أبرز هذه المبادرات:
- التعاون الهيكلي الدائم (PESCO): يجمع هذا الإطار بين الدول الأعضاء الراغبة في التعهد بالتزامات أكثر إلزامًا في مجال الدفاع، والمشاركة في مشاريع تعاونية مشتركة لتطوير القدرات العسكرية.
- صندوق الدفاع الأوروبي (EDF): يهدف الصندوق إلى تحفيز البحث والتطوير التعاوني في مجال الدفاع، ودعم الابتكار في تكنولوجيا الدفاع الأوروبية.
- قدرة التخطيط والتنفيذ العسكري (MPCC): هي هيكل قيادة للعمليات العسكرية غير التنفيذية للاتحاد الأوروبي، مما يسهل تخطيط وتنفيذ البعثات العسكرية.
إضافة إلى ذلك، قامت العديد من الدول الأوروبية بزيادة ميزانياتها الدفاعية بشكل كبير، متجهة نحو تحقيق هدف الناتو المتمثل في تخصيص 2% من الناتج المحلي الإجمالي للدفاع. كما تعزز التعاون الثنائي والمتعدد الأطراف بين الدول الأعضاء في مجالات التدريب وتبادل المعلومات الاستخباراتية وتطوير القدرات. ومع ذلك، لا تزال هناك تحديات كبيرة، بما في ذلك تجزئة الصناعات الدفاعية، واختلاف الأولويات الوطنية، وقضايا قابلية التشغيل البيني بين الجيوش المختلفة.
أهمية هذه التطورات
تحمل هذه التطورات أهمية بالغة على عدة مستويات:
- تعزيز الأمن الأوروبي: قدرة دفاعية أوروبية أقوى وأكثر تكاملاً ستعني أمنًا أكبر للقارة، وستمكنها من الرد بفعالية على مجموعة واسعة من التهديدات.
- تأثير عالمي أكبر: ستسمح لأوروبا بأن تصبح لاعبًا عالميًا أكثر قوة وقدرة على إبراز الاستقرار والنفوذ في مناطق الأزمات حول العالم.
- تقوية حلف الناتو: بدلاً من أن يكون بديلاً، فإن العمود الأوروبي الدفاعي القوي سيعزز الناتو ككل، مما يجعله حلفًا أكثر توازنًا وفعالية.
- منافع اقتصادية: تطوير صناعة دفاعية أوروبية مزدهرة يمكن أن يدفع الابتكار التكنولوجي، ويخلق فرص عمل، ويعزز النمو الاقتصادي في القارة.
تؤكد تصريحات الدكتورة كاميلا زاريتا على التحول الاستراتيجي طويل الأجل الذي تشهده أوروبا. إنها رؤية لقارة أكثر قدرة على الدفاع عن نفسها والمساهمة في الأمن العالمي، حيث تمثل روسيا دافعًا رئيسيًا ولكن ليس الوحيد لهذا الطموح. هذا المسعى نحو الدفاع المشترك يعكس إدراكًا متزايدًا بأن الأمن في القرن الحادي والعشرين يتطلب استجابة جماعية ومتكاملة، تتجاوز التهديدات الفردية لتشمل رؤية استراتيجية أوسع للمستقبل.





