المحكمة الجنائية الدولية تفتح تحقيقاً حول مزاعم قتل واغتصاب جماعي بالفاشر
أعلنت المحكمة الجنائية الدولية (ICC) في يونيو 2024 أنها تشرع في جمع أدلة وتقارير موثوقة بشأن مزاعم ارتكاب جرائم مروعة، تشمل قتل جماعي واغتصاب، في مدينة الفاشر بولاية شمال دارفور بالسودان. وتأتي هذه الخطوة في ظل تصاعد مقلق لأعمال العنف في المنطقة، حيث تشير التقارير الأولية إلى أن هذه الأفعال قد ترقى إلى مستوى جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية، مما يضع مرتكبيها تحت طائلة القانون الدولي. ويهدف التحقيق إلى تحديد المسؤولين عن هذه الفظائع وتقديمهم للعدالة.

خلفية النزاع في السودان ووضع الفاشر الاستراتيجي
تأتي هذه التطورات في سياق النزاع المسلح المستمر في السودان منذ منتصف أبريل 2023، والذي يدور بشكل رئيسي بين القوات المسلحة السودانية (SAF) وقوات الدعم السريع (RSF). وتعد مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، نقطة محورية في هذا الصراع نظراً لموقعها الاستراتيجي وكونها المركز الإنساني الوحيد الذي لا يزال يعمل نسبياً في المنطقة. هذا الدور المحوري جعلها ملجأ لمئات الآلاف من النازحين الفارين من العنف في أجزاء أخرى من دارفور، مما زاد من هشاشة وضعها. لقد شهدت الفاشر تصعيداً عنيفاً منذ أبريل 2024، حيث تدور اشتباكات ضارية حول المدينة وفي أحيائها، مما يعرض المدنيين لمخاطر جسيمة.
لطالما كانت دارفور، الإقليم الذي تقع فيه الفاشر، مسرحاً لنزاعات طويلة الأمد وفظائع جماعية. فمنذ أوائل عقد 2000، شهد الإقليم حملات عنف واسعة النطاق أدت إلى نزوح ملايين الأشخاص ووفاة مئات الآلاف، مما استدعى تدخل المحكمة الجنائية الدولية في وقت سابق. هذا التاريخ يضفي بعداً إضافياً على الأوضاع الراهنة، حيث تُستعاد مخاوف من تكرار أنماط العنف والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.
تطورات الوضع ومزاعم الانتهاكات
تلقى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، تقارير مقلقة تفيد بوقوع حوادث خطيرة في الفاشر ومحيطها. تتضمن هذه التقارير معلومات حول:
- أعمال قتل جماعي: استهداف مدنيين بشكل متعمد ومنهجي في منازلهم وأسواقهم ومناطق تجمعهم.
 - جرائم اغتصاب وعنف جنسي: تقارير متعددة عن اعتداءات جنسية ضد النساء والفتيات، والتي تعتبر من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية عند ارتكابها بشكل واسع النطاق أو ممنهج.
 - تدمير البنية التحتية المدنية: استهداف المستشفيات والمدارس ومخيمات النازحين، مما يعيق تقديم الخدمات الأساسية ويفاقم الأزمة الإنسانية.
 - تهجير قسري: دفع السكان للفرار من منازلهم تحت تهديد السلاح والعنف.
 
دور المحكمة الجنائية الدولية ومسار التحقيق
ليست هذه هي المرة الأولى التي تتدخل فيها المحكمة الجنائية الدولية بخصوص الجرائم المرتكبة في دارفور. فقد أصدرت المحكمة في السابق مذكرات اعتقال بحق شخصيات سودانية رفيعة، أبرزها الرئيس السابق عمر البشير، بتهم ارتكاب إبادة جماعية وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في الإقليم. يؤكد هذا السجل الطويل على تفويض المحكمة بملاحقة المسؤولين عن أخطر الجرائم الدولية، مما يضفي ثقلاً كبيراً على التحقيق الجاري حالياً في الفاشر.
يهدف التحقيق الحالي الذي أعلن عنه المدعي العام كريم خان إلى جمع أدلة قوية وموثوقة تشمل شهادات الضحايا والناجين، صور الأقمار الصناعية، تقارير الخبراء، وأي معلومات أخرى ذات صلة يمكن أن تساعد في بناء قضايا ضد المتورطين. وقد ناشدت المحكمة المجتمع الدولي والدول الأعضاء تزويدها بالمعلومات والدعم اللازمين لضمان فعالية هذا التحقيق. إن الهدف الأسمى من هذه التحقيقات هو محاسبة الأفراد المسؤولين عن هذه الفظائع، بهدف توفير العدالة للضحايا وردع ارتكاب مثل هذه الجرائم مستقبلاً في أي نزاع مسلح.
التداعيات الإنسانية والدولية
تتجاوز تداعيات العنف في الفاشر مجرد الانتهاكات القانونية لتشمل كارثة إنسانية واسعة النطاق. فقد أدت الاشتباكات المستمرة إلى قطع الطرق وإعاقة وصول المساعدات الإنسانية، مما فاقم من انتشار المجاعة وسوء التغذية الحاد، ليس فقط في الفاشر بل وفي مناطق أخرى متضررة مثل كادوغلي بجنوب كردفان. يعاني مئات الآلاف من المدنيين من نقص حاد في الغذاء والماء والدواء، بينما انهارت معظم المرافق الصحية. وقد دعت الأمم المتحدة مراراً إلى وقف فوري لإطلاق النار في الفاشر وتأمين ممرات إنسانية آمنة لإيصال المساعدات المنقذة للحياة.
على الصعيد الدولي، تزايدت الضغوط على أطراف النزاع لوقف القتال وحماية المدنيين. وأعربت العديد من الدول والمنظمات الدولية عن قلقها العميق إزاء الوضع في الفاشر، داعية إلى احترام القانون الإنساني الدولي. إن فتح المحكمة الجنائية الدولية تحقيقاً رسمياً يبعث برسالة واضحة مفادها أن المجتمع الدولي لن يتجاهل الجرائم المرتكبة، وأن مرتكبيها سيواجهون العدالة عاجلاً أم آجلاً.
لماذا يهم هذا الخبر؟
يكمن أهمية هذا التحقيق في عدة جوانب محورية. أولاً، إنه يمثل بارقة أمل للضحايا الذين عانوا من فظائع لا توصف، إذ يوفر مساراً محتملاً لتحقيق العدالة والمساءلة عن الجرائم التي ارتُكبت ضدهم. ثانياً، يبعث التحقيق برسالة ردع قوية لأطراف النزاع بأن المجتمع الدولي يراقب، وأن انتهاكات القانون الدولي لن تمر دون عقاب، مما قد يسهم في تغيير سلوك هذه الأطراف على المدى الطويل. ثالثاً، يعزز دور المحكمة الجنائية الدولية كمؤسسة أساسية في الحفاظ على السلام والأمن الدوليين من خلال تطبيق القانون الجنائي الدولي على أشد الجرائم خطورة.
في الختام، بينما تتواصل الاشتباكات وتتفاقم الأزمة الإنسانية في الفاشر ومناطق أخرى من السودان، يبقى تحقيق المحكمة الجنائية الدولية خطوة حاسمة نحو إحقاق العدالة وضمان عدم إفلات مرتكبي الجرائم البشعة من العقاب، وهو ما يمثل دعامة أساسية لأي حل مستدام للنزاع.




