بليغ حمدي: إرث الألحان الخالدة في ذكرى ميلاده
تحل هذه الأيام ذكرى ميلاد الموسيقار العبقري بليغ حمدي، الذي يُعد علامة فارقة ونقطة تحول جوهرية في تاريخ الموسيقى العربية الحديثة. ففي كل عام، تتجدد هذه المناسبة لتعيد إلى الأذهان إسهاماته التي لا تُقدر بثمن في تشكيل الوجدان الموسيقي العربي المعاصر. لقد ترك حمدي خلفه كنزًا لا ينضب من الألحان التي تجاوزت حدود الزمان والمكان، لتظل خالدة في ذاكرة الأجيال المتعاقبة، وشاهدة على عبقرية موسيقية أصيلة لم تتكرر في مسيرة الفن العربي.

نشأة الموهبة وبواكير العبقرية
وُلد بليغ حمدي السيد درويش في حي شبرا الراقي بالقاهرة في السابع من أكتوبر عام 1931، في كنف عائلة تميزت بحبها للفن واهتمامها بالموسيقى. تجلى نبوغه الموسيقي منذ طفولته المبكرة، حيث بدأ في تعلم العزف على آلة العود وهو لم يتجاوز التاسعة من عمره، ليتقنها ببراعة لافتة سرعان ما ميزته عن أقرانه. لم تكن موهبته مجرد هواية عابرة، بل كانت قدرًا حتميًا قاده إلى صقل هذه الموهبة بالدراسة الأكاديمية المتعمقة في معهد فؤاد الأول للموسيقى العربية، الذي يُعرف حاليًا بالكونسرفاتوار. هناك، لم يكتف بليغ حمدي بالتعلم التقليدي، بل أظهر وعيًا موسيقيًا فطريًا وقدرة استثنائية على الجمع بين الأصالة الشرقية العميقة والتجديد المعاصر، وهي السمة التي ستصبح فيما بعد جوهر هويته الفنية.
بدأت رحلته الاحترافية في عالم التلحين مبكرًا، حيث كانت أولى ألحانه التي ذاع صيتها أغنية "مابيهزرش" للفنانة فايدة كامل في منتصف الخمسينيات. ورغم بداياته المتواضعة كعازف عود وحتى كشاب حاول الغناء في بعض الأحيان، إلا أن شغفه ومهارته الفائقة في التلحين كانا أقوى وأكثر تأثيرًا، وسرعان ما حوّل مساره ليصبح واحدًا من أكثر الملحنين إنتاجًا وتأثيرًا في العالم العربي، مُبشرًا بمرحلة جديدة من الموسيقى.
الموسيقار المجدد وعصر ذهبي من التعاون
تُعد مسيرة بليغ حمدي الفنية بمثابة ثورة موسيقية، فقد تجاوزت ألحانه الألفي عمل، لتشمل أعمالًا غنائية وقطعًا موسيقية وحتى موسيقى تصويرية لأفلام ومسرحيات. لم يكن حمدي مجرد ملحن يقدم ألحانًا جاهزة، بل كان شريكًا فنيًا حقيقيًا للكثير من عمالقة الغناء العربي، ممتلكًا قدرة فريدة على استنطاق أعمق مشاعر الفنان وتجسيدها في نغمات تتناغم تمامًا مع صوته وشخصيته الفنية. لقد أدرك بذكاء متفرد أن اللحن يجب أن يكون مرآة لصوت المؤدي وجوهر أدائه، فصاغ ألحانًا بدت وكأنها خُلقت خصيصًا لكل حنجرة.
تُسلط هذه الذكرى الضوء على علاقاته الفنية الاستثنائية التي أثمرت عن فصول ذهبية في تاريخ الموسيقى العربية. فقد قدم لكوكب الشرق أم كلثوم روائع مثل "حبك يا سيدي"، "فات الميعاد"، و"ألف ليلة وليلة"، التي لم تكن مجرد أغنيات بل أيقونات خالدة شكلت علامات فارقة في مسيرتها الفنية. ومع العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، نسج ألحانًا عاطفية عميقة تلامس الروح مثل "هوايا يا هوايا"، "زي الهوا"، "سواح"، و"على حسب وداد قلبي"، التي لازالت تتردد حتى اليوم. كما أثرى مسيرة الفنانة وردة الجزائرية بأعمال لا تُنسى مثل "أوراق الورد"، "حكايتي مع الزمان"، و"بتونس بيك"، التي جسدت قمة التفاهم الفني والإبداعي بينهما. ولم يقتصر إبداعه على هؤلاء القامات، بل امتد ليشمل أسماء لامعة أخرى مثل شادية ("يا حبيبتي يا مصر"، "خلي بالك من عقلك")، صباح، نجاة الصغيرة، فايزة أحمد، ومحمد رشدي، ليعكس قدرته الفذة على التنوع وتقديم أعمال تناسب مختلف الأذواق والفئات الموسيقية.
البصمة الفريدة والإرث المتجدد لموسيقار الأجيال
تكمن عبقرية بليغ حمدي الحقيقية في قدرته الفريدة على خلق ألحان ذات طابع شرقي أصيل عميق، مستمدًا إلهامه من التراث الشعبي المصري والعربي الغني، لكنه في الوقت ذاته كان يضفي عليها لمسة عصرية مبتكرة وجريئة. كانت ألحانه تتميز بالبساطة الساحرة والعمق العاطفي الجياش، مما جعلها سهلة الحفظ والوصول إلى القلوب دون عناء أو تكلف. لم يلتزم حمدي بقوالب موسيقية جاهزة أو خطوط محددة، بل كان يكسر المألوف ليقدم تجارب موسيقية جديدة كليًا، ممهدًا الطريق لاتجاهات لم تكن معروفة من قبل، وهذا ما أكسبه عن جدارة لقب "موسيقار الأجيال".
يستمر تأثير بليغ حمدي في التمدد عبر الأزمان، فموسيقاه لا تزال تتردد أصداؤها بقوة في الإذاعات والتلفزيونات وعبر المنصات الرقمية الحديثة، وتُلهم الأجيال الجديدة من الموسيقيين والملحنين في العالم العربي وخارجه. تُقام الفعاليات والحفلات الموسيقية باستمرار احتفالًا بإرثه الفني الغني، ويُعاد توزيع وغناء أعماله من قبل فنانين معاصرين، مما يؤكد أن ألحانه ليست مجرد أعمال فنية مضت، بل جزء لا يتجزأ من الهوية الثقافية العربية المعاصرة. في كل ذكرى ميلاد، لا نحتفي بذكرى رجل عظيم فحسب، بل نحتفي بإرث فني حي يتنفس ويتطور مع كل جيل، ويؤكد على أن صوت بليغ حمدي اللحني سيبقى خالدًا في وجدان كل من يعشق النغم الأصيل والجمال الموسيقي الخالد.




