بولندا تحذّر: مسار بوتين نحو بودابست لن يفلت من لاهاي
في تصريح لافت يعكس التوترات الجيوسياسية المتصاعدة في أوروبا، أطلقت بولندا تحذيراً شديد اللهجة بشأن المسار المحتمل للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مشيرة إلى أن أي طموحات روسية لتوسيع نفوذها في دول مثل المجر (بودابست) ستواجه حتماً التدقيق القانوني في لاهاي. يبرز هذا التحذير، الذي صدر مؤخراً، عمق الانقسامات داخل الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، ويؤكد على تصميم بولندا على ضمان المساءلة الدولية عن تصرفات روسيا، خاصة في سياق غزوها لأوكرانيا.
خلفية التحذير البولندي وموقف وارسو
لطالما كانت بولندا في طليعة الدول الأوروبية التي تنتقد بشدة السياسات الروسية وتعتبرها تهديداً مباشراً لأمنها القومي وأمن القارة الأوروبية ككل. منذ ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في عام 2014 والغزو الشامل لأوكرانيا في فبراير 2022، دعت وارسو باستمرار إلى اتخاذ موقف حازم ضد موسكو، بما في ذلك فرض عقوبات اقتصادية صارمة وتقديم دعم عسكري ولوجستي واسع النطاق لكييف. وتنظر بولندا إلى العدوان الروسي على أنه ليس مجرد صراع إقليمي، بل محاولة لإعادة تشكيل النظام الأمني الأوروبي وتقويض سيادة الدول المستقلة. تأتي هذه التصريحات الأخيرة في سياق هذا التوجه الثابت، حيث تسعى بولندا للتأكيد على أن الانتهاكات للقانون الدولي لا يمكن أن تمر دون عواقب، بغض النظر عن المكاسب الجيوسياسية المزعومة.
الموقف المجري ودوره في الانقسام الأوروبي
يشير الجزء المتعلق بـ "بودابست" في التحذير البولندي إلى العلاقات المعقدة بين المجر وروسيا، والموقف المتميز الذي اتخذته حكومة رئيس الوزراء فيكتور أوربان داخل الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. ففي حين أن غالبية الدول الأعضاء في التكتلين قد اتفقت على إدانة روسيا وتقديم الدعم لأوكرانيا، غالباً ما اتبعت المجر مساراً أكثر حذراً، وعارضت في بعض الأحيان فرض عقوبات إضافية على روسيا أو تأخير الموافقات على حزم المساعدات المالية لأوكرانيا. وقد أثار هذا الموقف انتقادات واسعة من عواصم أوروبية أخرى، بما في ذلك وارسو، التي ترى فيه تقويضاً للوحدة الأوروبية في مواجهة العدوان الروسي. يرمز ذكر بودابست هنا إلى النفوذ الروسي المحتمل أو المرغوب به داخل الاتحاد الأوروبي عبر دول قد تبدو أكثر تقبلاً لمصالح موسكو، مما يعكس مخاوف بولندا من استغلال روسيا للانقسامات الداخلية لتعزيز أجندتها.
دور المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي
يمثل ذكر "لاهاي" نقطة محورية في التحذير البولندي، حيث تشير إلى المحكمة الجنائية الدولية (ICC) ومؤسسات العدالة الدولية الأخرى الموجودة في المدينة الهولندية. ففي مارس 2023، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والمفوضة الروسية لحقوق الأطفال ماريا لفوفا بيلوفا، بتهمة ارتكاب جرائم حرب تتعلق بالترحيل غير القانوني للأطفال الأوكرانيين من المناطق المحتلة إلى روسيا. وقد شكلت هذه المذكرة سابقة تاريخية، حيث إنها المرة الأولى التي يصدر فيها أمر اعتقال بحق رئيس دولة دائمة العضوية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. يشدد التحذير البولندي على أن المسار الجيوسياسي الذي يسلكه بوتين، حتى لو كان يهدف إلى تعزيز النفوذ في عواصم مثل "بودابست"، لا يمكن أن يفصل عن هذه التبعات القانونية. إنه تذكير بأن أيدي القضاء الدولي يمكن أن تطال حتى أقوى القادة، وأن الطموحات السياسية لا تعفي من المساءلة عن انتهاكات القانون الدولي.
تفسير التحذير وتداعياته الأوسع
يتجاوز التحذير البولندي كونه مجرد ملاحظة دبلوماسية، ليصبح بياناً سياسياً وقانونياً ذا دلالات عميقة. فهو يعبر عن قناعة بولندا بأن أي محاولة روسية لتثبيت نفوذها أو تحقيق مكاسب استراتيجية في أوروبا، سواء بشكل مباشر أو عبر التأثير على سياسات دول معينة، ستظل محاطة بمسألة المساءلة عن جرائم الحرب. الرسالة واضحة: لا يمكن لروسيا أن تواصل عدوانها وتتوقع في الوقت نفسه أن تتجنب العواقب القانونية على أعلى المستويات. ويهدف هذا التحذير أيضاً إلى توجيه رسالة إلى الدول التي قد تُعتبر أكثر ميلاً للتعاون مع موسكو أو تبني مواقف مخففة تجاهها، بأن مثل هذا التعاون قد يؤدي إلى تعقيدات أخلاقية وقانونية في نهاية المطاف، بالنظر إلى المذكرات الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية. وبشكل أوسع، يعزز هذا التحذير مبدأ عدم الإفلات من العقاب ويؤكد على أهمية سيادة القانون الدولي في حفظ الأمن والاستقرار العالمي، حتى في ظل التحديات الجيوسياسية المعاصرة. إن طريق بوتين، بعبارة بولندا، ليس طريقاً إلى النفوذ المطلق، بل هو طريق يتقاطع حتماً مع العدالة الدولية.




