تقنية الجلد الروبوتي الناعم: ثورة في التنقل الدقيق داخل الشرايين والمحركات
في أواخر يناير 2024، كشف فريق من المهندسين والباحثين في جامعة كاليفورنيا بسان دييغو (UCSD) عن تطور مهم في مجال الروبوتات المرنة. فقد نجحوا في تطوير جلد روبوتي ناعم ومبتكر يمكّن الروبوتات الصغيرة من التنقل ببراعة فائقة ودقة متناهية داخل البيئات المعقدة والهشة. تهدف هذه التقنية الرائدة إلى إحداث نقلة نوعية في قدرة الروبوتات على استكشاف المساحات الضيقة، بدءاً من الأوعية الدموية الدقيقة داخل جسم الإنسان وصولاً إلى الممرات المتعرجة لمحركات الطائرات.

الخلفية والتحديات
لطالما واجهت الروبوتات التقليدية، التي تعتمد على الأجزاء الصلبة والحركة بالاحتكاك، تحديات كبيرة عند العمل في البيئات الحساسة والضيقة. فاحتكاكها المستمر بالجدران قد يتسبب في أضرار للمنطقة المستكشفة، سواء كانت نسيجاً بيولوجياً دقيقاً أو مكونات آلة حساسة. كما أن قدرتها على المناورة محدودة في المسارات المتعرجة والضيقة جداً. وللتغلب على هذه المعوقات، بدأ الباحثون في استكشاف مفهوم «الروبوتات النامية» أو «روبوتات الانقلاب الداخلي» (eversion robots)، التي تتحرك عن طريق تمديد نفسها من الداخل إلى الخارج بدلاً من الزحف أو الدفع. ومع ذلك، فإن التحكم في هذه الروبوتات وتوفير طبقة خارجية تحميها وتساعدها على الحركة بسلاسة كان يمثل تحدياً تقنياً كبيراً.
الابتكار: الجلد الروبوتي المرن
يمثل الابتكار الجديد من جامعة كاليفورنيا بسان دييغو حلاً لهذه التحديات. فقد صمم الفريق جلداً روبوتياً ناعماً يتكون من طبقات رقيقة من مواد مرنة مثل البوليمرات والسيليكون. هذا الجلد ليس مجرد غلاف واقٍ، بل هو جزء أساسي من آلية حركة الروبوت. يتميز هذا الجلد بمرونته العالية وقدرته على التكيف مع الأشكال المختلفة للممرات التي يرتادها الروبوت. وتكمن «الذكاء» في هذا الجلد في كيفية تفاعله مع آلية الحركة؛ حيث لا ينزلق الروبوت على السطح الذي يتحرك عليه، بل ينمو أو يتمدد عن طريق انقلاب الجلد من الداخل إلى الخارج، مما يقلل بشكل كبير من الاحتكاك المباشر مع البيئة المحيطة.
تُمكن هذه الآلية الفريدة الروبوت من التنقل بسلاسة عبر التعرجات والزوايا الضيقة دون الحاجة إلى قوة دفع كبيرة، ودون التسبب في أي احتكاك أو ضرر. كما أن تصميم الجلد يسمح بدمج مستشعرات دقيقة في المستقبل، مما سيزيد من قدرة الروبوت على الإحساس ببيئته وتوجيه نفسه بدقة أكبر، مما يوفر بيانات حيوية حول درجة الحرارة، والضغط، والتركيب الكيميائي، أو حتى اكتشاف الأضرار والعيوب.
آلية العمل والميزات الرئيسية
تعتمد آلية عمل الروبوت ذي الجلد الذكي على مبدأ مشابه لكيفية قلب الجورب أو تمدد غصن النبات. يتم دفع الجزء الداخلي من الجلد الروبوتي للخارج بشكل مستمر، مما يؤدي إلى تمدد الروبوت ونموه في الاتجاه المطلوب. يتم التحكم في هذا التمدد والتوجيه بدقة باستخدام ضغط السوائل (الهواء أو السوائل الهيدروليكية) داخل الجسم الروبوتي. وبما أن الحركة تتم عن طريق «فك» الجلد نفسه بدلاً من جر الجسم بأكمله، فإن الاحتكاك يكون ضئيلاً للغاية، مما يسمح للروبوت بالانزلاق عبر المساحات الحساسة دون مقاومة تذكر.
- تقليل الاحتكاك: تعد هذه الميزة أساسية للسماح بالوصول إلى البيئات الدقيقة والهشة دون التسبب في خدوش أو تلف.
 - المرونة والتكيف: يمكن للروبوت أن يتكيف مع الأشكال المعقدة والممرات المتعرجة، مما يجعله مثالياً للاستكشاف الداخلي.
 - الحد الأدنى من الغزو: يقلل التصميم الناعم من المخاطر المحتملة على الأنسجة البيولوجية الحية أو المكونات الميكانيكية الحساسة.
 - القدرة على حمل الحمولات: يمكن تصميم الروبوتات لحمل أدوات صغيرة، أو كاميرات، أو مستشعرات، أو حتى جرعات علاجية، مما يزيد من فعاليتها.
 - السلامة: يقلل هذا النهج من مخاطر تلف الروبوت نفسه وكذلك البيئة التي يعمل فيها.
 
تطبيقات واعدة
تفتح هذه التقنية آفاقاً واسعة في مجالات متعددة، نظراً لقدرتها على الوصول إلى أماكن كانت تُعد مستحيلة أو خطرة في السابق:
في المجال الطبي
- التشخيص والعلاج داخل الأوعية الدموية: يمكن للروبوتات المزودة بهذا الجلد أن تتنقل داخل الشرايين والأوردة الدقيقة، مما يتيح للأطباء الوصول إلى مناطق صعبة لتشخيص الأمراض، أو أخذ خزعات، أو توصيل الأدوية الموجهة بدقة لعلاج الأورام أو الجلطات الدموية دون الحاجة لجراحة تقليدية كبرى.
 - الجراحات طفيفة التوغل: يمكن استخدامها في الجراحات التي تتطلب حداً أدنى من الغزو، مثل إصلاح الأوعية الدموية أو الأعصاب في الأماكن الحساسة.
 - استكشاف أعضاء الجسم الداخلية: التنقل في الممرات الضيقة للجهاز الهضمي أو الجهاز التنفسي للبحث عن الأورام، أو الانسدادات، أو جمع العينات.
 
في المجال الصناعي
- فحص المحركات والمعدات الحساسة: القدرة على التسلل داخل محركات الطائرات، أو التوربينات البخارية، أو المفاعلات النووية، أو الآلات المعقدة الأخرى التي لا يمكن تفكيكها بسهولة. يمكنها الكشف عن الشقوق الدقيقة، والتآكل، والتلف، مما يساهم في الصيانة الوقائية ويزيد من السلامة التشغيلية.
 - صيانة خطوط الأنابيب: فحص خطوط أنابيب النفط والغاز والمياه والصرف الصحي للكشف عن التسربات أو التآكل أو الانسدادات، حتى في الأنابيب ذات الأقطار الصغيرة والمسارات المتعرجة.
 - استكشاف البيئات الخطرة: إمكانية إرسال هذه الروبوتات إلى مناطق تعرض البشر للخطر، مثل مواقع الحوادث الكيميائية، أو المناطق الملوثة إشعاعياً، أو الهياكل المنهارة لجمع المعلومات.
 
التحديات والآفاق المستقبلية
على الرغم من الإمكانيات الهائلة، لا تزال هناك بعض التحديات التي يعمل الباحثون على تجاوزها. تشمل هذه التحديات زيادة سرعة نشر الروبوت، وتحسين كفاءة الطاقة، وتصغير حجم الروبوتات بشكل أكبر لتناسب بعض التطبيقات الطبية الدقيقة للغاية. كما يركز البحث المستقبلي على تطوير خوارزميات تحكم أكثر تعقيداً لتمكين الاستقلالية الكاملة، ودمج مستشعرات ميكرومترية أكثر تطوراً (مثل المستشعرات الكيميائية، والضوئية، والصوتية)، بالإضافة إلى استكشاف المواد القابلة للتحلل الحيوي لتطبيقات الطب الحيوي لتقليل الحاجة إلى استرجاع الروبوت بعد المهمة.
الأهمية والتأثير
تمثل تقنية الجلد الروبوتي الناعم خطوة عملاقة في مجال الروبوتات المرنة. إنها تجسر الفجوة بين الروبوتات الصلبة القوية والروبوتات البيولوجية القابلة للتكيف، مما يفتح الأبواب أمام تطبيقات لم تكن ممكنة في السابق. هذا الابتكار لديه القدرة على إعادة تعريف معايير التشخيص الطبي، والعلاج، والصيانة الصناعية، والاستكشاف، مما يوفر حلولاً أكثر أماناً ودقة وأقل تدخلاً في العديد من القطاعات الحيوية. ومع استمرار البحث والتطوير، من المتوقع أن تصبح هذه الروبوتات جزءاً لا يتجزأ من الأدوات التكنولوجية التي تخدم البشرية في مجالات لا حصر لها.





