توقف السينما السورية: هل كان مخلصاً للفن أم عامل انحدار إضافي؟
في السنوات الأخيرة، شهد المشهد الثقافي السوري تحولات جذرية، كان أبرزها التوقف شبه الكامل لعجلة الإنتاج السينمائي التقليدي. هذا التوقف، الذي يعود بشكل أساسي إلى الظروف السياسية والاقتصادية المعقدة التي مرت بها البلاد منذ عام 2011، أثار جدلاً واسعاً حول طبيعة تأثيره على الفن السوري بشكل عام. فبينما يرى البعض أنه قد يكون قد "أنقذ" الفن من مسارات محددة قد تؤدي إلى التدهور، يرى آخرون أنه ساهم في تراجع ملحوظ وتشتت الطاقات الإبداعية.

الخلفية: حقبة ما قبل التوقف
تميزت السينما السورية قبل عام 2011، لاسيما في عقودها الذهبية، بكونها سينما ذات طابع اجتماعي وسياسي عميق، وغالباً ما كانت مدعومة من الدولة عبر المؤسسة العامة للسينما. أنتجت هذه الفترة أفلاماً حازت على إشادة نقدية دولية، وعكست قضايا المجتمع السوري، مستكشفةً موضوعات مثل الفقر، القمع، الهوية، والحداثة. كانت الأفلام السورية تُعرف بأسلوبها الواقعي وقدرتها على طرح تساؤلات جوهرية، وشكلت جزءاً أساسياً من الهوية الثقافية السورية والعربية. كانت هناك بنية تحتية قائمة، وإن كانت متواضعة مقارنة ببعض الدول الأخرى، شملت دور عرض واستوديوهات ومؤسسات تدريب.
أسباب التوقف والتحول
اندلعت الأزمة في سوريا عام 2011، مما أدى إلى سلسلة من التحديات غير المسبوقة التي طالت كافة القطاعات، بما في ذلك الثقافة والفن. تأثرت السينما بشكل مباشر جراء:
- تدمير البنية التحتية: تعرضت العديد من الاستوديوهات ودور العرض لأضرار جسيمة أو دُمرت بالكامل.
- شح التمويل: تحولت أولويات الدولة نحو تلبية الاحتياجات الأساسية، مما قلص بشكل كبير الدعم المالي للمشاريع الفنية. كما تراجع التمويل الخاص بسبب الأوضاع الاقتصادية المتدهورة.
- هجرة الكفاءات: غادر عدد كبير من المخرجين، الممثلين، التقنيين، والكتاب السوريين البلاد بحثاً عن الأمان وفرص العمل في الخارج، مما أحدث فراغاً كبيراً في الكوادر الفنية.
- صعوبة الإنتاج: أصبحت ظروف التصوير داخل سوريا محفوفة بالمخاطر الأمنية واللوجستية، مما جعل إنتاج الأفلام الطويلة التقليدية أمراً شبه مستحيل.
التوقف كـ"مخلص" للفن: وجهة نظر
يرى بعض النقاد والفنانين أن هذا التوقف القسري، رغم قسوته، قد يكون قد أفسح المجال لنوع جديد من التعبير الفني، أكثر استقلالية وجرأة. تُطرح الحجج التالية لدعم هذه الفكرة:
- التحرر من القيود: تراجع الدعم الحكومي يعني تراجع الرقابة الرسمية والخطوط الحمراء، مما سمح للفنانين بتناول موضوعات كانت محظورة في السابق، والتعبير عن واقعهم بتجرد أكبر.
- صعود السينما المستقلة والوثائقية: مع غياب الإمكانيات الضخمة، اتجه الكثيرون نحو صناعة الأفلام الوثائقية والقصيرة بأساليب بسيطة وكاميرات رقمية، لتوثيق الأحداث اليومية والصراعات الإنسانية بصدق. هذه الأعمال غالباً ما لاقت استحساناً في المهرجانات الدولية.
- الابتكار والبحث عن بدائل: دفع التحدي الفنانين للبحث عن أساليب إنتاج وتمويل وتوزيع مبتكرة، بما في ذلك الاعتماد على التمويل الجماعي والشراكات الأجنبية والمنصات الرقمية.
- سينما الشتات: ساهم الفنانون السوريون في المهجر في إثراء المشهد السينمائي العالمي بأفلام تعكس تجربتهم وتجارب شعبهم، بعيداً عن ضغوط الداخل.
التوقف كـ"عامل انحدار": وجهة نظر أخرى
في المقابل، يرى عدد كبير من المعنيين أن توقف عجلة الإنتاج السينمائي التقليدي يمثل ضربة قاصمة للفن السوري، وأن ما يُنتج حالياً، رغم أهميته، لا يعوض الخسارة الكبيرة:
- فقدان الهوية السينمائية: غياب المؤسسات الداعمة وفقدان التسلسل الطبيعي للإنتاج أضعف من "المدرسة السينمائية السورية" ككيان متكامل له سماته المميزة.
- تشتت المواهب: أدت الهجرة إلى تشتت الكفاءات، وصعوبة العمل ضمن فرق إنتاج متكاملة، مما أثر على جودة بعض الأعمال وتماسكها الفني.
- ضعف البنية التحتية: غياب الاستوديوهات المتطورة ودور العرض الفعالة يحد من قدرة الأفلام على الوصول إلى الجمهور المحلي ويُعيق تطور الصناعة.
- تراجع التعليم والتدريب: توقفت برامج التعليم والتدريب السينمائي المتخصصة أو تدهورت بشكل كبير، مما يهدد بتوقف توريث الخبرات وظهور أجيال جديدة من المخرجين والتقنيين.
- غياب الدعم النقدي والترويجي: تراجع النقاش النقدي الداخلي وتوقف المهرجانات المحلية، مما يقلل من فرص التقييم والتطوير والترويج للأعمال الجديدة.
آفاق المستقبل والتحديات
يظل مستقبل السينما السورية معلقاً بين الأمل والتحديات الجمة. لا يمكن تجاهل الآثار السلبية لتوقف الإنتاج المنظم على المدى الطويل، خاصة فيما يتعلق بتطور الصناعة وتراكم الخبرات وتواصل الأجيال. وفي الوقت نفسه، لا يمكن إنكار أن الأزمة قد حفزت أشكالاً جديدة من التعبير الفني، أكثر حميمية واستقلالية، والتي قد تشكل بذور نهضة سينمائية مختلفة في حال توفرت الظروف الملائمة.
تتمثل التحديات الرئيسية في إعادة بناء البنية التحتية، وتوفير التمويل المستدام، واستقطاب الكفاءات المهاجرة، وخلق بيئة داعمة للإبداع بعيداً عن التجاذبات السياسية. يبقى السؤال مطروحاً بقوة: هل كان توقف السينما السورية تجربة مؤلمة أدت إلى ميلاد أشكال فنية جديدة أكثر صدقاً، أم أنه كان بداية لتدهور لا يزال مستمراً؟ الإجابة قد لا تكون واحدة، بل تتشكل من تعدد التجارب والمسارات الفنية التي شهدتها سوريا في عقدها الأخير.




