جدل بيئي ومخاوف تنافسية تلاحق "شي إن" الصينية مع افتتاحها المؤقت في باريس
شهدت العاصمة الفرنسية باريس، بين أواخر أكتوبر ومطلع نوفمبر من عام 2023، افتتاح متجر مؤقت لشركة الأزياء الصينية العملاقة "شي إن" (Shein) في متجر "بي إتش في ماريه" (BHV Marais) الشهير. لم يكن هذا الافتتاح مجرد حدث تجاري عادي، بل أثار موجة واسعة من الجدل والانتقادات، تركزت بشكل أساسي حول بصمة الشركة البيئية المثيرة للقلق، ومزاعم الممارسات التنافسية غير العادلة، فضلاً عن المخاوف المتعلقة بظروف العمل في سلسلة توريدها العالمية. تعكس هذه الأحداث في قلب باريس، إحدى عواصم الموضة العالمية، تحديات أوسع تواجه صناعة الأزياء السريعة للغاية، وتضع نموذج عمل "شي إن" تحت المجهر.

نموذج عمل "شي إن" والانتشار السريع
برزت "شي إن" كواحدة من أبرز عمالقة الأزياء السريعة للغاية (ultra-fast fashion) في العالم، معتمدة بشكل كبير على نموذج أعمال رقمي بالكامل. تعتمد الشركة على تحليل البيانات في الوقت الفعلي لتحديد أحدث الاتجاهات، ثم تنتج وتطلق آلاف التصاميم الجديدة يومياً، بأسعار منخفضة للغاية. يتيح لها هذا النهج تلبية الطلب المتغير بسرعة هائلة وتوفير مجموعة واسعة من المنتجات بأسعار تنافسية للغاية، مما جذب شريحة كبيرة من المستهلكين الشباب حول العالم.
يعتمد نجاح "شي إن" على سلسلة توريد مرنة وسريعة الاستجابة، تُمكِّنها من تصنيع كميات صغيرة من المنتجات الجديدة واختبارها في السوق، ثم زيادة الإنتاج بسرعة للعناصر الناجحة. هذا النموذج، المعروف باسم "اختبر وكرر" (test-and-repeat)، يمنحها ميزة تنافسية هائلة على تجار التجزئة التقليديين الذين يعملون بمواسم إنتاج أطول وأقل مرونة.
المخاوف البيئية في قلب الجدل
تُعد البصمة البيئية لـ"شي إن" واحدة من أبرز نقاط الانتقاد الموجهة إليها. تتهم الشركة بأنها تُساهم بشكل كبير في تفاقم مشكلة النفايات النسيجية العالمية، حيث يشجع نموذج الأزياء السريعة للغاية المستهلكين على شراء المزيد والتخلص من الملابس بسرعة أكبر. هذه الدورة الاستهلاكية تؤدي إلى استنزاف الموارد الطبيعية، وارتفاع انبعاثات الكربون المرتبطة بالإنتاج والنقل، واستخدام كميات كبيرة من المياه والمواد الكيميائية في عمليات الصباغة والتشطيب.
يُبرز النقاد أن الحجم الهائل لإنتاج "شي إن"، والذي يتضمن آلاف المنتجات الجديدة يوميًا، يضع ضغطًا هائلاً على البيئة. كما أن الاعتماد على الألياف الصناعية الرخيصة، مثل البوليستر، يساهم في مشكلة التلوث باللدائن الدقيقة التي تتسرب إلى المحيطات. وقد دعت منظمات بيئية وحكومات أوروبية إلى فرض لوائح أكثر صرامة على صناعة الأزياء للحد من تأثيراتها السلبية، مشككة في أي ادعاءات لـ"شي إن" بالاستدامة باعتبارها "تجميلاً بيئياً" (greenwashing).
اتهامات المنافسة غير العادلة وتأثيرها الاقتصادي
تُثير "شي إن" أيضًا مخاوف جدية بشأن المنافسة العادلة في سوق الأزياء. يجادل العديد من تجار التجزئة التقليديين والمصممين المستقلين بأن "شي إن" تقوِّض قدرتهم على المنافسة بأسعارها المنخفضة للغاية وسرعة طرح المنتجات. وتُوجه إليها اتهامات متكررة بانتهاك حقوق الملكية الفكرية من خلال نسخ تصاميم من مصممين صغار وعلامات تجارية أخرى، مما يقضي على الإبداع ويُلحق الضرر بالمبتكرين الأصليين.
بالنسبة للاقتصاديات المحلية، وخاصة في دول مثل فرنسا التي تفتخر بصناعة أزياء عريقة، تُعد "شي إن" تهديدًا للشركات الصغيرة والمتوسطة التي لا تستطيع مجاراة نموذجها. يُخشى أن يؤدي هذا إلى فقدان الوظائف وتآكل النسيج الصناعي التقليدي، الذي يركز على الجودة والتصميم الفريد بدلاً من الكمية والتكلفة المنخفضة جدًا.
انتقادات ظروف العمل في سلسلة التوريد
على الرغم من أن الافتتاح في باريس يتعلق بالبيع بالتجزئة، إلا أن "شي إن" تواجه تدقيقًا مستمرًا بشأن ظروف العمل في سلسلة التوريد الخاصة بها، والتي تتركز بشكل كبير في الصين. تشمل هذه الانتقادات مزاعم عن ساعات عمل طويلة بشكل غير معقول، وأجور متدنية، وبيئات عمل غير آمنة في المصانع التي تتعاقد معها الشركة. يطالب المدافعون عن حقوق العمال بمزيد من الشفافية والمساءلة من جانب "شي إن" لضمان التزام مورديها بالمعايير الأخلاقية للعمل.
ردود الفعل والوعي الاستهلاكي
لم يمر افتتاح متجر "شي إن" المؤقت في باريس دون رد فعل. فقد تظاهر نشطاء بيئيون وممثلون عن الشركات المحلية ومصممون مستقلون أمام المتجر، معبرين عن رفضهم لنموذج الأزياء السريعة للغاية وتأثيراته السلبية. تُشير هذه الاحتجاجات إلى تزايد الوعي العام بالقضايا الأخلاقية والبيئية المرتبطة بالاستهلاك.
ومع ذلك، تستمر "شي إن" في جذب قاعدة جماهيرية ضخمة، خاصة بين الشباب، الذين ينجذبون إلى الأسعار المعقولة والقدرة على مواكبة أحدث صيحات الموضة بسهولة. هذا يخلق انقسامًا بين الرغبة في الموضة بأسعار معقولة والوعي المتزايد بالحاجة إلى الاستهلاك المستدام، مما يضع المستهلكين أمام خيارات صعبة.
أهمية الحدث في السياق الأوسع
يمثل وجود "شي إن" المادي في عاصمة الموضة مثل باريس، حتى لو كان مؤقتًا، خطوة استراتيجية للشركة لتوسيع جاذبيتها وتفاعلها مع العملاء خارج الفضاء الرقمي. إنه جزء من جهودها لبناء العلامة التجارية وتغيير تصوراتها، بالرغم من كل الانتقادات.
بشكل أوسع، يُسلط حدث باريس الضوء على الجدل العالمي الأكبر حول كيفية الموازنة بين الطلب الاستهلاكي على الأزياء الرخيصة وبين الحاجة الملحة للاستدامة البيئية، ومعايير العمل العادلة، والقدرة التنافسية للشركات الأصغر. إنه يُظهر التحديات التنظيمية التي تواجه الحكومات في التعامل مع عمالقة التجارة الإلكترونية العالمية وتأثيراتها المعقدة على الصناعة والمجتمع.





