"جوع": الطبخ موضوعٌ للصراع الطبقي
يُعدّ الفيلم التايلاندي "جوع" (Hunger) الذي صدر في عام 2023، للمخرج سيتييز كونغولزيري، دراسةً عميقةً ومثيرةً للتفكير حول التفاوت الطبقي والطموح الجامح، متخذًا من عالم الطهي الرفيع مسرحًا رئيسيًا لأحداثه. لم يكتفِ الفيلم بعرض القصص الدرامية داخل المطابخ الاحترافية، بل تعمق في استكشاف كيف يمكن للطعام، الذي يُنظر إليه عادةً كمصدر أساسي للبقاء، أن يتحول إلى أداة لترسيخ الفروق الاجتماعية وإبراز الصراع بين الطبقات.

خلفية الفيلم وقصته
تدور أحداث الفيلم حول أوي، شابة موهوبة تعمل في مطعم عائلتها المتواضع للأطعمة الشعبية في بانكوك. تتميز أوي بمهاراتها الفطرية في الطهي وشغفها الذي يمنح أطباقها نكهةً خاصة. تأتي نقطة التحول في حياتها عندما يتم اكتشاف موهبتها من قبل فريق "جوع"، وهو فريق طهي فاخر يترأسه الطاهي الشهير والمستبد بول. هذا الفريق لا يقدم الطعام في المطاعم التقليدية، بل يقدم تجارب طهي حصرية للأثرياء والنخب، غالبًا في مناسباتهم الخاصة، حيث تُطلب أطباق فريدة وغريبة بأسعار باهظة.
ينتقل الفيلم ببراعة بين عالم أوي البسيط، حيث الطعام يجمع الناس ويعبر عن الحب والرعاية، وعالم الشيف بول القاسي، حيث الطهي فنٌّ لا يرحم، والكمال هو الشغل الشاغل، والضغط النفسي والجسدي يصل إلى أقصى حدوده. هذه الخلفية الدرامية توفر أرضية خصبة لتحليل العلاقة المعقدة بين الفن، التجارة، والمكانة الاجتماعية.
الصراع الطبقي وتجلياته في عالم الطهي
يتجلى الصراع الطبقي في "جوع" في عدة مستويات، أبرزها:
- الطعام كرمز للمكانة: يظهر الفيلم كيف يتحول الطعام من ضرورة للبقاء إلى رمز للفخامة والثراء. فالأطباق التي يقدمها الشيف بول ليست لإشباع الجوع بالمعنى الحرفي، بل لإرضاء رغبات معقدة تتعلق بالمكانة والتباهي. يُعدّ سعر الطبق وتعقيده مؤشرًا على قيمة الفرد في المجتمع، ويُصبح استهلاك مثل هذه الأطعمة جزءًا من هوية النخبة.
- صراع الطموح والبقاء: تمثل شخصية أوي الطبقة العاملة التي تسعى جاهدة للارتقاء الاجتماعي. يدفعها طموحها إلى التضحية بالكثير، بما في ذلك هويتها وقيمها الأصلية، للتكيف مع عالم الشيف بول المتطلب. في المقابل، يمثل الشيف بول النخبة التي وصلت إلى القمة، لكنها تعيش في حالة "جوع" دائم للمزيد من القوة والتقدير، حتى لو كان ذلك يعني القسوة والتجرّد من الإنسانية.
- التفاوت في الوصول والتقدير: يسلط الفيلم الضوء على التفاوت الصارخ بين الموارد والفرص المتاحة. فبينما يكافح الكثيرون لتوفير لقمة العيش، تنفق النخبة أموالًا طائلة على تجارب طعام تُعدّ مجرد رفاهية. هذا التفاوت لا يقتصر على المستهلكين فحسب، بل يمتد إلى العاملين في صناعة الطعام، حيث يكسب الطهاة الموهوبون من خلفيات متواضعة فرصًا قليلةً للبروز مقارنةً بمن يمتلكون العلاقات والموارد.
يُبرز الفيلم ببراعة كيف أن "الجوع" ليس فقط غياب الطعام، بل هو أيضًا الجوع للنجاح، للاعتراف، للقوة، وللمكانة الاجتماعية. هذه الأنواع المختلفة من الجوع تتشابك لتشكل نسيج الصراع الطبقي الذي يدور في قلب السرد.
الدوافع والمعاني العميقة
يُحلل الفيلم الدوافع النفسية للشخصيات ببراعة. فالشيف بول، على الرغم من نجاحه الباهر، يبدو وكأنه لا يزال مدفوعًا بجوع عميق للحصول على القبول، ربما نتيجةً لخلفية صعبة. هذا الجوع يدفعه إلى البحث عن الكمال المطلق الذي لا يراه إلا هو، ويجعله يعامل فريقه بقسوة بالغة. في المقابل، تسعى أوي إلى إثبات ذاتها والهروب من القيود المفروضة على طبقها، ولكنها سرعان ما تكتشف أن ثمن هذا النجاح قد يكون باهظًا جدًا على الصعيد الشخصي والأخلاقي.
كما يُطرح تساؤل جوهري حول ماهية "الفن" في الطهي. هل هو إبداع يُقدم للجميع، أم هو امتياز مخصص لمن يستطيعون تحمل تكلفته؟ يميل الفيلم إلى الإجابة بأن الفن الحقيقي في الطهي قد يكمن في القدرة على إطعام الناس بصدق، بدلاً من مجرد إبهارهم بتعقيدات لا تخدم سوى الأنا والتباهي.
لماذا يثير الفيلم النقاش؟
يُعد فيلم "جوع" مهمًا لأنه يقدم نقدًا لاذعًا للرأسمالية الحديثة وثقافة الاستهلاك المفرط، خاصة في مجال الطعام. في عصر بات فيه "الشيف النجم" أيقونةً ثقافية، يأتي الفيلم ليخلخل هذه الصورة البرّاقة ويكشف عن التناقضات والضغوط الخفية وراء الكواليس. إنه يدعو المشاهدين إلى التفكير في مصدر طعامهم، ومن يقوم بإعداده، ولمن يُعد، والأهم من ذلك، ما هي التكاليف البشرية والاجتماعية التي تُدفع في سبيل هذه التجارب الفاخرة.
في الختام، يترك "جوع" المشاهدين أمام مرآة تعكس واقعًا اجتماعيًا معقدًا، حيث يمكن لطبق بسيط أو وجبة فاخرة أن تحكي قصصًا عن التفاوت، والطموح، وبحث الإنسان الدائم عن مكانه وقيمته في عالم يتزايد فيه الانقسام.
نُشر هذا التحليل أوائل عام 2024.





