إحياء إرث الأجداد: فن صناعة الطواقي والأطباق من جريد النخيل في البحيرة

في قلب محافظة البحيرة بدلتا النيل، وتحديدًا في مدينة رشيد التاريخية، تتجلى قصة صمود إحدى أقدم الحرف اليدوية المصرية وأكثرها ارتباطًا بالبيئة المحلية. إنها حرفة صناعة الطواقي والأطباق، بالإضافة إلى هياكل الطرابيش، من جريد النخيل. هذه الصناعة ليست مجرد مهارة يدوية، بل هي جزء لا يتجزأ من النسيج الثقافي للمنطقة، وتجسيد حي لموروث الأجداد الذي يواصل الأحفاد صونه وإحياءه في مواجهة تحديات العصر الحديث.

خلفية تاريخية وأهمية جريد النخيل

لطالما كانت النخلة شجرة مباركة في الثقافة المصرية والعربية، وتُعرف بقدرتها على توفير الغذاء والظل، بالإضافة إلى مواد خام متعددة الاستخدامات. فجريد النخيل، وهو سعف النخيل المجفف، يُعد منذ قرون موردًا أساسيًا لصناعة العديد من الأدوات المنزلية والزراعية. كانت هذه الحرفة ضرورية لتلبية احتياجات المجتمع اليومية، بدءًا من الأوعية لتخزين الطعام وتقديم الضيافة، وصولاً إلى الأغطية الواقية للرأس التي توفر الحماية من شمس الصحراء الحارقة. وقد توارثت الأجيال المتعاقبة أسرار هذه الصناعة، محافظين على التقنيات والأنماط التي تشكل جزءًا من هويتهم.

تفاصيل الحرفة ومنتجاتها

تبدأ عملية صناعة المنتجات من جريد النخيل بجمع السعف من أشجار النخيل، ثم يتم فرزه وتجهيزه. تتضمن هذه العملية عادة التجفيف تحت أشعة الشمس لضمان صلابة الجريد ومتانته، وقد يتم نقعه في الماء لتليينه قبل بدء عملية التضفير والنسج. يتطلب العمل مهارة ودقة فائقة في التعامل مع المواد، حيث يستخدم الحرفيون أيديهم ببراعة لقص وتشكيل وتضفير الجريد في أنماط معقدة وجذابة. ومن أبرز المنتجات التي تشتهر بها هذه الحرفة في البحيرة ما يلي:

الطواقي: وهي قبعات يدوية الصنع تُستخدم عادة في الأعمال الزراعية أو كغطاء يومي للرأس، وتتميز بتهويتها الطبيعية وخفتها.
الأطباق والسلال: تُصنع بأحجام وأشكال مختلفة لتناسب استخدامات متنوعة، مثل تقديم الخبز، أو تخزين الفواكه، أو كعناصر ديكور منزلية.
هياكل الطرابيش: تُستخدم كقاعدة للطرابيش التقليدية، مما يعكس مدى دقة وتعقيد الصناعة.
منتجات أخرى: تشمل السجاد الصغير، الحصير، وحتى بعض قطع الأثاث الخفيفة التي تجمع بين الأصالة والوظيفية.

تحديات وصمود الحرفيين

في ظل التطور الصناعي وظهور المنتجات البلاستيكية والمعدنية الرخيصة، واجهت حرفة جريد النخيل تحديات كبيرة. تراجع الطلب في الأسواق المحلية، وتقلص عدد الشباب المهتمين بتعلم هذه المهارة الشاقة، كلها عوامل هددت بانقراض هذه الحرفة العريقة. ومع ذلك، هناك جهود حثيثة تبذلها الأجيال الشابة، أحفاد الحرفيين الأصليين، لإحياء هذا الإرث. هؤلاء الأحفاد لا يكتفون بمجرد الحفاظ على التقنيات القديمة، بل يسعون أيضًا إلى تطوير المنتجات لتلائم الأذواق العصرية وفتح أسواق جديدة، سواء على المستوى المحلي أو من خلال التسويق السياحي.

يُعد التركيز على الجودة والتصميم الفريد، بالإضافة إلى تعزيز الجانب البيئي المستدام لهذه المنتجات، من الاستراتيجيات التي يتبعها الحرفيون للحفاظ على بقاء الحرفة. وقد بدأت ورش العمل الصغيرة، خاصة في رشيد، في التحول إلى مراكز لنقل المعرفة وتدريب الأجيال الجديدة، لضمان استمرارية هذا الفن الحي.

أهمية الحفاظ على هذه الحرفة

إن إحياء حرفة صناعة الطواقي والأطباق من جريد النخيل يحمل أهمية تتجاوز مجرد إنتاج السلع. إنه يمثل:

صيانة الهوية الثقافية: تذكير دائم بالجذور والتقاليد المصرية الأصيلة.
التنمية المستدامة: تعزيز استخدام المواد الطبيعية المتجددة وتقليل الاعتماد على المنتجات الصناعية الضارة بالبيئة.
دعم الاقتصاد المحلي: توفير فرص عمل للحرفيين والمساهمة في الدخل المحلي للمجتمعات الريفية.
جذب السياحة الثقافية: تقديم تجربة أصيلة للسياح المهتمين بالتراث والمنتجات اليدوية الفريدة.

باختصار، فإن استمرارية هذه الحرفة في محافظة البحيرة ليست مجرد قصة عن صناعة يدوية، بل هي شهادة على مرونة الثقافة المصرية وقدرتها على التكيف والازدهار عبر الأجيال، مع التركيز المستمر على ربط الماضي بالحاضر والمستقبل.