أدلى المخرج المصري البارز شريف عرفة بتصريح أثار نقاشاً واسعاً حول جوهر السينما ودورها الأصيل، وذلك خلال حوار مفتوح جرى مؤخراً ضمن فعاليات مهرجان الجونة السينمائي. ركز عرفة في تصريحاته على أهمية الجانب الفني والإنساني المتأصل في العمل السينمائي، مقدماً رؤية قد تختلف عن التوجهات السائدة التي ترى في السينما أداة مباشرة وواضحة لمعالجة القضايا الاجتماعية والسياسية بشكل صريح. تأتي هذه الرؤية من أحد أبرز صناع السينما في المنطقة، مما يضفي عليها ثقلاً خاصاً في الأوساط الفنية والنقدية.
شريف عرفة: السينما ليست منصة لطرح القضايا بل فن بصرى وإنسانى
خلفية التصريح: رؤية مخرج متمرس ومسيرة فنية حافلة
يأتي هذا التصريح من مخرج يمتلك مسيرة فنية حافلة تمتد لأكثر من أربعة عقود، قدم خلالها أعمالاً سينمائية خالدة ومؤثرة تنوعت بين الكوميديا السوداء اللاذعة، الدراما الاجتماعية العميقة، والأفلام التاريخية الكبرى. من أعماله البارزة أفلام مثل "اللعب مع الكبار" (1991)، "الإرهاب والكباب" (1992)، "المنسي" (1993)، "طيور الظلام" (1995)، و"حليم" (2006)، وصولاً إلى الإنتاجات الضخمة مثل "الممر" (2019). تتميز أفلام عرفة بقدرتها الفريدة على الجمع بين الجذب الجماهيري الواسع والعمق الفني الذي يحظى بتقدير النقاد. غالباً ما تتناول أعماله قضايا مجتمعية وسياسية شائكة، لكن بأسلوب فني متقن وغير مباشر، يعتمد على الرمزية والطبقات المتعددة للمعنى بدلاً من الخطابية المباشرة. تصريحات شريف عرفة، بحكم خبرته الطويلة ومكانته كأحد رواد الإخراج المؤثرين في مصر والعالم العربي، تحمل وزناً خاصاً وتعتبر مرآة لفلسفته الإخراجية التي طالما دافع عنها، وتؤكد على أهمية البحث عن القيمة الفنية أولاً.
جوهر الفن: البصر والإنسان أولاً في الرؤية العرفاوية
وفقاً لرؤية شريف عرفة، فإن جوهر السينما لا يكمن في كونها مجرد "منصة" أو منبراً تقليدياً لتقديم أو طرح القضايا والمعضلات الاجتماعية أو السياسية. بدلاً من ذلك، يشدد عرفة على أن السينما هي "فن بصري وإنساني" في المقام الأول وقبل كل شيء. هذا التمييز الجوهري يشير إلى أن القيمة الأصلية للفيلم تكمن في قدرته على التواصل العميق عبر لغة الصورة والصوت، وفي قدرته الفائقة على استكشاف التجربة الإنسانية بكل تعقيداتها وتناقضاتها، وإثارة المشاعر الجياشة والتفكير النقدي والعميق لدى المشاهدين بطرق فنية مبتكرة وغير مباشرة. إنه يرى أن الفن ليس مجرد وعاء فارغ لمحتوى رسالي محدد، بل هو تجربة حسية وفكرية متكاملة بحد ذاتها، تصمد بجمالها وتأثيرها.
- التركيز على الفن البصري: يعكس هذا الجانب التأكيد على جماليات الصورة، من التكوين الدقيق والإضاءة المتقنة إلى حركة الكاميرا المدروسة بعناية، كعناصر أساسية لا غنى عنها في خلق التجربة السينمائية الفريدة والمؤثرة.
 - الأبعاد الإنسانية العميقة: يشير هذا المفهوم إلى قدرة السينما على الغوص في أعماق النفس البشرية، تصوير العلاقات المتشابكة، الصراعات الداخلية والخارجية، الأحلام المستحيلة، والمخاوف الكامنة، مما يجعل المشاهد يتفاعل عاطفياً وفكرياً ووجدانياً مع العمل على مستوى عميق وشخصي.
 
دافع المخرج الحقيقي: الشغف المتجرد لا السعي وراء النجاح التجاري
لم يكتف عرفة بتحديد جوهر السينما من منظور فني وإنساني، بل تطرق أيضاً إلى دافع المخرج الحقيقي والصادق. أكد أن المخرج الأصيل أو الفنان الحقيقي يعمل "بدافع الحب والشغف" تجاه الفن نفسه والقصة التي يرويها، وليس بدافع السعي المحموم وراء النجاح الجماهيري السريع أو المنافسة التجارية الضارية مع الآخرين. هذه النقطة تتماشى تماماً مع رؤيته الأوسع للفن كفعل نابع من داخل الفنان وروحه، وليس استجابة لضغوط خارجية أو توقعات السوق المتغيرة. هذا الشغف الداخلي هو ما يدفع لخلق أعمال فنية عميقة، أصيلة، ومؤثرة، حتى لو لم تتصدر بالضرورة شباك التذاكر في موسم عرضها، فقيمتها الفنية تبقى خالدة.
لماذا يهم هذا التصريح؟ وأي نقاش يثير؟
يأتي تصريح شريف عرفة في سياق عالمي ومحلي تتزايد فيه التوقعات من السينما بأن تلعب دوراً مباشراً وفعالاً في معالجة القضايا الاجتماعية والسياسية الملحة، وأن تكون بمثابة مرآة تعكس الواقع وتسهم في تغييره. في ظل هذه البيئة التي تميل أحياناً إلى تقييم الأفلام بناءً على "رسالتها" الصريحة، يقدم عرفة منظورا ً فنياً قوياً يذكّر بأن قوة السينما الحقيقية قد لا تكمن في طرح المشكلة بشكل مباشر وفج، بل في تحويلها إلى تجربة فنية مؤثرة ومتكاملة، تدعو للتأمل والتفكير بعمق. إنه يدعو إلى تقدير السينما كشكل فني له لغته وأدواته التعبيرية الخاصة، بدلاً من اختزالها إلى مجرد أداة دعائية أو منصة للنقاش الجاف الذي يمكن أن يتم في أي منبر إعلامي آخر.
يثير هذا الطرح نقاشاً مهماً وحيوياً حول التوازن الدقيق بين الفن والرسالة في صناعة السينما. فهل يمكن للسينما أن تكون ذات تأثير اجتماعي عميق ومستدام دون أن تفقد جوهرها الفني الأصيل؟ يرى عرفة أن هذا التوازن يتحقق عندما تُصاغ القضايا بأسلوب فني رفيع، فتصبح جزءاً لا يتجزأ من النسيج البصري والإنساني للفيلم، وتتغلغل في وعي المشاهد بطريقة فنية عميقة، لا مجرد موضوع يُعرض على الشاشة كتقرير إخباري. هذا التأكيد على الأولوية للفن والإنسانية لا ينفي قدرة السينما على التعبير عن الواقع ومعالجته، بل يحدد الأسلوب الأمثل لذلك التعبير، الذي يحترم خصوصية الوسيط الفني.





