صعود الدولار في ظل استمرار الإغلاق الحكومي الأمريكي
تشهد الولايات المتحدة الأمريكية في الآونة الأخيرة استمراراً لحالة الإغلاق الحكومي، وهي ظاهرة تتكرر بين الفينة والأخرى نتيجة لعدم التوصل إلى اتفاق حول الميزانية الفيدرالية. هذه الأزمة السياسية لها تداعيات اقتصادية واسعة، ليس فقط على الداخل الأمريكي بل على الأسواق العالمية أيضاً. من أبرز هذه التداعيات، الارتفاع الملحوظ في قيمة الدولار الأمريكي، الذي غالباً ما يُنظر إليه كملجأ آمن في أوقات عدم اليقين الاقتصادي والسياسي، على الرغم من أن الإغلاق قد يشير إلى اضطراب داخلي.

مفهوم الإغلاق الحكومي وتاريخه
الإغلاق الحكومي يحدث عندما يفشل الكونغرس الأمريكي في تمرير قوانين الاعتمادات المالية اللازمة لتمويل العمليات الفيدرالية قبل نهاية السنة المالية (30 سبتمبر). في هذه الحالة، تتوقف العديد من الخدمات الحكومية «غير الأساسية»، ويتم تسريح مئات الآلاف من الموظفين الفيدراليين مؤقتاً أو يُطلب منهم العمل بدون أجر. تشمل الخدمات التي تستمر عادةً تلك المتعلقة بالأمن القومي والسلامة العامة.
تاريخياً، شهدت الولايات المتحدة العديد من حالات الإغلاق الحكومي. من أبرزها:
- إغلاق عام 1995-1996: استمر لعدة أسابيع خلال إدارة الرئيس بيل كلينتون، وتسبب في تعطيل خدمات واسعة النطاق.
- إغلاق عام 2013: استمر لمدة 16 يوماً، وتأثرت به ما يقرب من 800 ألف موظف فيدرالي، وكلف الاقتصاد الأمريكي نحو 24 مليار دولار.
- إغلاق عام 2018-2019: كان الأطول في تاريخ الولايات المتحدة، حيث استمر 35 يوماً وتسبب في توقف جزئي للعديد من الوكالات الفيدرالية، نتيجة لخلاف حول تمويل بناء جدار على الحدود المكسيكية.
تُظهر هذه الأمثلة أن الإغلاق الحكومي ليس مجرد إجراء إداري، بل هو أزمة سياسية ذات تداعيات اقتصادية واجتماعية عميقة.
التداعيات الاقتصادية وارتفاع الدولار
على الرغم من أن الإغلاق الحكومي يُعد حدثاً سلبياً يؤثر على الاقتصاد الأمريكي، إلا أن سلوك الدولار خلال هذه الفترات يمكن أن يكون معقداً. في كثير من الأحيان، ومع استمرار الأزمة الحالية التي بدأت في أواخر أكتوبر 2023، يميل الدولار إلى الارتفاع مقابل العملات الرئيسية الأخرى. هناك عدة أسباب محتملة لهذه الظاهرة:
- ملاذ آمن: في أوقات عدم اليقين العالمي، يتجه المستثمرون غالباً إلى الأصول المقومة بالدولار الأمريكي، مثل سندات الخزانة، باعتبارها ملاذاً آمناً. هذا التدفق لرؤوس الأموال يعزز الطلب على الدولار ويرفع قيمته.
- توقعات السياسة النقدية: قد يفسر السوق الإغلاق على أنه قد يؤثر على قرارات الاحتياطي الفيدرالي، مما قد يدفع البنك المركزي إلى الحفاظ على أسعار فائدة مرتفعة لفترة أطول لمواجهة أي تباطؤ اقتصادي محتمل، وهو ما يدعم قيمة العملة.
- ضعف اقتصادات أخرى: قد يكون ارتفاع الدولار ليس فقط نتيجة لقوته الذاتية، بل انعكاساً لضعف أو عدم استقرار في اقتصادات رئيسية أخرى حول العالم، مما يجعل الأصول الأمريكية أكثر جاذبية نسبياً.
- التوقعات بحل سريع: قد يراهن بعض المستثمرين على أن الإغلاق لن يستمر طويلاً وسيتم التوصل إلى حل، مما يحد من التأثير السلبي طويل الأجل ويدعم ثقتهم في الاقتصاد الأمريكي.
ومع ذلك، فإن الإغلاق يترك آثاراً سلبية مباشرة على الاقتصاد المحلي، منها انخفاض في الناتج المحلي الإجمالي، وتأثر الإنفاق الاستهلاكي بسبب توقف رواتب الموظفين الفيدراليين، وتأخر في نشر البيانات الاقتصادية الحيوية، مما يزيد من حالة عدم اليقين في السوق.
الخلفية السياسية والمفاوضات الحالية
عادة ما ينجم الإغلاق الحكومي عن خلافات حادة بين الحزبين الرئيسيين، الديمقراطي والجمهوري، حول أولويات الإنفاق والمستوى الإجمالي للميزانية، أو إدراج بنود سياسية معينة في مشاريع قوانين الاعتمادات. في السياق الحالي، تتمركز الخلافات غالباً حول قضايا مثل مستويات الإنفاق الدفاعي وغير الدفاعي، وتمويل برامج اجتماعية محددة، أو سياسات الهجرة. يتطلب التوصل إلى حل توافقاً من الحزبين في مجلسي النواب والشيوخ، وتوقيع الرئيس على مشروع القانون.
تجري المفاوضات عادة بين قادة الكونغرس ومسؤولي الإدارة، وغالباً ما تتسم بالتوتر وتبادل الاتهامات، مع ضغط شعبي وإعلامي متزايد للتوصل إلى حل يجنب البلاد المزيد من الأضرار الاقتصادية.
التأثير على المواطن الأمريكي والأسواق العالمية
لا يقتصر تأثير الإغلاق الحكومي على الأرقام الاقتصادية الكلية، بل يمتد ليشمل حياة المواطنين الأمريكيين اليومية. يتأثر الموظفون الفيدراليون بشكل مباشر بتوقف رواتبهم، مما يؤثر على قدرتهم على سداد التزاماتهم المالية. كما تتوقف بعض الخدمات الحكومية الأساسية مثل معالجة طلبات الجوازات والتأشيرات، وصيانة المتنزهات الوطنية، وبعض الأبحاث العلمية، مما يعطل الحياة اليومية للملايين.
على الصعيد العالمي، يمكن أن يؤدي استمرار الإغلاق إلى اهتزاز ثقة المستثمرين في استقرار السياسة الأمريكية وقدرتها على إدارة شؤونها المالية. هذا يمكن أن يؤثر على الأسواق المالية العالمية ويخلق حالة من عدم اليقين، خاصة بالنسبة للبلدان التي ترتبط اقتصاداتها ارتباطاً وثيقاً بالاقتصاد الأمريكي. على الرغم من ارتفاع الدولار في بعض الأحيان كملجأ آمن، إلا أن النظرة العامة على المدى الطويل قد تتأثر سلباً بسمعة الولايات المتحدة كقوة اقتصادية مستقرة.
في الختام، يُعد الإغلاق الحكومي الأمريكي ظاهرة معقدة ومتعددة الأوجه، تجمع بين الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وبينما قد يرتفع الدولار في ظل هذه الأزمة كاستجابة أولية لتدفقات الملاذ الآمن، فإن التأثيرات الأوسع نطاقاً على الاقتصاد والمجتمع الأمريكي تتطلب حلاً سياسياً عاجلاً لتجنب تداعيات أعمق وأطول أمداً.





