مرور سنوات على رحيل نعيمة الصغير: سيدة الشر الخالدة في ذاكرة السينما المصرية
يصادف اليوم مرور عدة سنوات على رحيل الفنانة القديرة نعيمة الصغير، التي حفرت اسمها بأحرف من ذهب في تاريخ السينما المصرية، ليس فقط كممثلة بارعة، بل كأيقونة فريدة جسّدت الشر ببراعة لم يسبق لها مثيل. نجحت الصغير في مانحة أدوارها أبعادًا إنسانية معقدة جعلت منها جزءًا لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي لأفلامها، محطمة الصورة النمطية للشر المطلق. في هذا اليوم الذي يذكرنا بمسيرتها الحافلة، نستعرض إرث هذه الفنانة الاستثنائية التي تركت بصمة لا تُمحى في قلوب وعقول المشاهدين، وكيف رسخت مكانتها كسيدة الشر الخالدة في تاريخ الفن السابع.

من هي نعيمة الصغير؟
ولدت نعيمة عبد المجيد فهمي في الأول من يناير عام 1931، وجاءت نعيمة الصغير من خلفية فنية شعبية غنية. بدأت مسيرتها الفنية في وقت مبكر كمغنية في الأفراح والموالد الشعبية، مما أكسبها حسًا عاليًا بالإيقاع والقدرة على التعبير الجسدي والصوتي، وهي مهارات نقلتها ببراعة إلى عالم التمثيل. تميزت نعيمة الصغير بملامح قوية ذات طابع خاص، وصوت أجش فريد ومميز، بالإضافة إلى حضور طاغٍ على الشاشة، هذه السمات مجتمعة جعلتها محط أنظار المخرجين الباحثين عن وجوه جديدة تستطيع تجسيد الأدوار المركبة والصعبة التي تتطلب عمقًا نفسيًا. انتقالها إلى عالم التمثيل لم يكن سهلاً وخاليًا من التحديات، لكن إصرارها وموهبتها الفطرية مكنتها من شق طريقها ببطء وثبات، لتتحول من مجرد وجه جديد إلى نجمة أساسية في أدوار الشر التي برعت في تقديمها.
مسيرة فنية فريدة
اشتهرت نعيمة الصغير بشكل خاص بتقديم أدوار الشر المركبة التي غالبًا ما كانت تحمل في طياتها مزيجًا من القوة، القسوة، والدهاء، وأحيانًا لمحات من الكوميديا السوداء التي أضافت بعدًا إنسانيًا لشخصياتها. لم يكن شرها سطحيًا أو أحادي البعد، بل كان نابعًا من شخصيات ذات دوافع واضحة ومبررة، سواء كانت طمعًا، غيرة، أو صراعًا على البقاء في بيئات قاسية. هذا العمق في الأداء جعلها تختلف عن غيرها من الممثلات اللواتي قدمن أدوارًا مشابهة، حيث كانت تضفي على كل شخصية لمسة خاصة من الواقعية. من أبرز ملامح أدائها التي ميزتها وجعلتها أيقونة للشر السينمائي:
- التعبير غير اللفظي: كانت نظراتها الثاقبة، تعابير وجهها القاسية، وحركات جسدها الموحية كفيلة بنقل مشاعر الشر والدهاء والقسوة دون الحاجة لكلمات كثيرة، مما أضفى عمقًا غير متوقع على شخصياتها وجعلها محفورة في ذاكرة الجمهور.
 - الصوت المميز: صوتها الأجش والعميق الذي كان يحمل نبرة من التهديد والحزم، أضاف بعدًا آخر لشخصياتها، وجعلها أكثر تأثيرًا ورهبة في نفوس المشاهدين، وأصبحت نبرة صوتها علامة مميزة لأدوارها.
 - الواقعية الصادقة: قدمت أدوارها بصدق شديد وتلقائية، وكأنها جزء لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي المصري الأصيل، مما جعل الجمهور يصدقها ويتفاعل معها بقوة، سواء بالكراهية أو بالرهبة التي كانت تثيرها فيهم.
 
تجسدت هذه السمات في أدوار لا تُنسى مثل الأم القاسية، الحماة المتسلطة، صاحبة المنزل التي تدير أعمالًا مشبوهة، أو السيدة التي تتدخل في حياة الآخرين بدافع السيطرة والنفوذ. لم تكن أدوارها تقتصر على الشر الصريح، بل كانت تتقن أدوارًا تجمع بين الشر والطيبة المخبأة، أو الشر الذي ينبع من ظروف قاسية، مما أضاف عمقًا وواقعية وتعقيدًا لشخصياتها.
أبعاد أخرى لموهبتها
على الرغم من شهرتها الطاغية بأدوار الشر، إلا أن نعيمة الصغير أظهرت براعة لافتة في الأدوار الكوميدية، حيث استطاعت أن تضفي لمسة خاصة من الفكاهة الساخرة التي لا تخلو من الحدة والذكاء. هذه القدرة على التنقل بسلاسة بين الدراما الكثيفة والكوميديا خفيفة الظل تؤكد على مرونة موهبتها الفنية واتساع مداركها كممثلة، مما جعلها فنانة شاملة لا يمكن حصرها في نوع واحد من الأدوار. عبرت عن هذه المرونة في عدة أعمال، أثبتت فيها أنها ليست مجرد أيقونة للشر، بل فنانة متعددة الأوجه تستطيع إبهار الجمهور في مختلف القوالب التمثيلية وترك بصمتها الخاصة في كل دور.
إرث لا يُمحى
تركت نعيمة الصغير إرثًا فنيًا غنيًا لا يزال يُحتفى به حتى اليوم، ويُعتبر مرجعًا في فن الأداء التمثيلي للشخصيات المركبة والمعقدة. لم تكن مجرد ممثلة تؤدي أدوارًا مكتوبة، بل كانت فنانة تصنع شخصيات، تمنحها روحًا، وتجعلها جزءًا حيًا من ذاكرة السينما الجماعية التي تتناقلها الأجيال. هي مثال حي على أن الممثل الحقيقي يستطيع أن يحول أي دور، مهما بدا بسيطًا أو نمطيًا، إلى علامة فارقة بفضل عمق الأداء وصدق التعبير، ويسكن في وجدان الجمهور لفترات طويلة. لا تزال أعمالها تُعرض وتُشاهد بشكل متكرر، وتبقى شخصياتها حاضرة في أذهان الأجيال الجديدة من المشاهدين والفنانين، لتؤكد أن الشر، عندما يُقدم ببراعة فنية رفيعة، يمكن أن يكون جزءًا لا يتجزأ من سحر السينما وجاذبيتها الخالدة. تُعد نعيمة الصغير نموذجًا للممثلة التي صنعت لنفسها مكانة خاصة جدًا، وكسرت القواعد النمطية، وتركت بصمة فريدة يصعب تكرارها في تاريخ السينما المصرية العريق، مما يجعل ذكرى رحيلها مناسبة للتأمل في مسيرة فنية استثنائية.





