من سمرقند: اليونسكو تطلق معاهدة دولية لأخلاقيات تكنولوجيا الدماغ وتعزز شراكات الذكاء الاصطناعي
في أوائل نوفمبر 2023، أعلنت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) من مدينة سمرقند التاريخية في أوزبكستان عن مبادرة عالمية محورية، تمثلت في إطلاق مسودة معاهدة دولية تهدف إلى وضع إطار أخلاقي ناظم لتكنولوجيا الدماغ. تأتي هذه الخطوة في سياق تنامي القلق بشأن الآثار المحتملة للتقنيات العصبية المتقدمة على حقوق الإنسان والهوية الفردية. بالتزامن مع ذلك، أكدت اليونسكو على التزامها بتعزيز الشراكات العالمية في مجال الذكاء الاصطناعي، لتوسيع نطاق تطبيق التوصيات الأخلاقية للذكاء الاصطناعي الصادرة عنها في عام 2021، مؤكدة على ضرورة ضمان أن تخدم هذه التقنيات المصلحة العامة.

الخلفية والسياق: صعود تكنولوجيا الدماغ والذكاء الاصطناعي
يشهد العالم طفرة غير مسبوقة في تطور تكنولوجيا الدماغ (Neurotechnology) والذكاء الاصطناعي. تكنولوجيا الدماغ تشمل مجموعة واسعة من الأجهزة والأساليب التي تتفاعل بشكل مباشر مع الدماغ والجهاز العصبي، مثل واجهات الدماغ والحاسوب (BCIs)، والأقطاب الكهربائية المزروعة، والتقنيات التي تهدف إلى تحسين الوظائف الإدراكية أو علاج الاضطرابات العصبية. ورغم الوعود العلاجية والتحسينية لهذه التقنيات، فإنها تثير تحديات أخلاقية وقانونية عميقة، تتعلق بخصوصية البيانات الدماغية، والحفاظ على الهوية الشخصية، والحرية الإدراكية، ومخاطر إساءة الاستخدام.
في المقابل، يواصل الذكاء الاصطناعي التغلغل في كافة جوانب الحياة، من الرعاية الصحية والتعليم إلى النقل والأمن. ومع قدراته التحويلية، يطرح الذكاء الاصطناعي بدوره معضلات أخلاقية حول التحيز في الخوارزميات، والشفافية، والمساءلة، وتأثيره على سوق العمل، واحتمالية استخداماته الضارة. إدراكاً لهذه التحديات، كانت اليونسكو سباقة في وضع معايير عالمية، حيث أصدرت في عام 2021 أول توصية عالمية بشأن أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، والتي حظيت بتأييد الدول الأعضاء.
إطلاق المعاهدة الدولية لأخلاقيات تكنولوجيا الدماغ
يمثل إطلاق معاهدة أخلاقيات تكنولوجيا الدماغ من سمرقند علامة فارقة في الجهود الدولية لضمان التنمية المسؤولة لهذه التقنيات. تهدف هذه المعاهدة إلى تقديم إطار قانوني ملزم للدول الموقعة، يتجاوز التوصيات غير الملزمة، لضمان حماية حقوق الإنسان في مواجهة الابتكارات العصبية. تركز المعاهدة على مبادئ أساسية تشمل:
- حماية الهوية العقلية والجسدية: ضمان عدم التلاعب بالعمليات العقلية للأفراد أو تغييرها دون موافقة مستنيرة.
- الحرية الإدراكية: حق الفرد في التحكم في أفكاره وعواطفه وبياناته الدماغية.
- خصوصية البيانات العصبية: وضع معايير صارمة لجمع وتخزين واستخدام البيانات المستخلصة من الدماغ.
- الوصول العادل: ضمان ألا تؤدي هذه التقنيات إلى تفاقم الفجوات الاجتماعية والاقتصادية.
- الاستخدام المسؤول: منع استخدام تكنولوجيا الدماغ لأغراض غير أخلاقية أو عسكرية أو لأي شكل من أشكال المراقبة الجماعية أو القمع.
جاء إطلاق المسودة نتيجة لجهود مكثفة شارك فيها خبراء من مختلف التخصصات، وممثلون عن الدول الأعضاء، ومجتمعات مدنية، في سلسلة من المشاورات والاجتماعات العالمية. وستخضع المعاهدة لمزيد من المراجعة والمناقشة قبل أن تُعرض على الدول الأعضاء للمصادقة عليها.
تعزيز شراكات الذكاء الاصطناعي
بالإضافة إلى جهودها في مجال تكنولوجيا الدماغ، شددت اليونسكو على أهمية تعزيز شراكات الذكاء الاصطناعي كجزء لا يتجزأ من استراتيجيتها الأوسع لإدارة التقنيات الناشئة بشكل أخلاقي. تهدف هذه الشراكات إلى:
- تطبيق التوصيات: دعم الدول الأعضاء والمؤسسات في تنفيذ توصيات اليونسكو لأخلاقيات الذكاء الاصطناعي على أرض الواقع.
- بناء القدرات: توفير التدريب والموارد اللازمة لتطوير ونشر الذكاء الاصطناعي بطرق مسؤولة ومستدامة، لا سيما في الدول النامية.
- سد الفجوة الرقمية: العمل على ضمان أن فوائد الذكاء الاصطناعي تصل إلى الجميع، وتقليل خطر استبعاد الفئات المحرومة.
- تعزيز الحوار: تشجيع التعاون بين الحكومات، والقطاع الخاص، والأوساط الأكاديمية، والمجتمع المدني، لوضع سياسات وممارسات تعزز الذكاء الاصطناعي الأخلاقي.
تؤمن اليونسكو بأن التعاون متعدد الأطراف هو السبيل الوحيد لمواجهة التحديات العابرة للحدود التي تفرضها هذه التقنيات، وضمان أن تساهم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
الأهمية والتأثير العالمي
تكتسب مبادرات اليونسكو هذه أهمية بالغة في وقت تتسارع فيه وتيرة الابتكار التكنولوجي. فمن خلال إطلاق معاهدة دولية لأخلاقيات تكنولوجيا الدماغ وتعزيز شراكات الذكاء الاصطناعي، تتخذ اليونسكو موقفاً استباقياً لإنشاء آليات حوكمة عالمية قبل أن تتفاقم المشكلات الأخلاقية والقانونية. هذه الخطوات حاسمة لـ:
- وضع معايير عالمية: توفير إطار مرجعي مشترك للدول والشركات والباحثين.
- حماية حقوق الإنسان: ضمان أن التطورات التكنولوجية لا تنتهك الحقوق الأساسية للأفراد.
- تعزيز الابتكار المسؤول: توجيه البحث والتطوير نحو مسارات تخدم الصالح العام وتتجنب المخاطر المحتملة.
- بناء الثقة العامة: طمأنة المجتمعات بأن التقدم التكنولوجي يخضع لإشراف أخلاقي وقانوني.
ومع ذلك، لا تخلو هذه الجهود من التحديات، بما في ذلك الحاجة إلى ضمان الموافقة الواسعة من الدول الأعضاء، والتكيف المستمر مع التطورات التكنولوجية السريعة، والتغلب على مصالح الشركات والمجموعات التي قد تقاوم التنظيم.
الخطوات المستقبلية
بعد إطلاق المسودة، ستدخل المعاهدة الدولية لأخلاقيات تكنولوجيا الدماغ مرحلة المراجعة والمفاوضات بين الدول الأعضاء، بهدف التوصل إلى نص نهائي يمكن اعتماده والمصادقة عليه. أما فيما يخص شراكات الذكاء الاصطناعي، فستواصل اليونسكو العمل مع شركائها لتطوير مشاريع ملموسة، ونشر أفضل الممارسات، وبناء شبكات عالمية تدعم الذكاء الاصطناعي المسؤول. وستظل المنظمة منصة للحوار والتعاون الدوليين لضمان أن تخدم التقنيات المتقدمة مستقبل البشرية بأمان وإنصاف.





