هواوي في مواجهة العقوبات الأمريكية: استراتيجيات الصمود بعد خمس سنوات
بعد مرور خمس سنوات على إدراجها ضمن قائمة الكيانات التجارية المحظورة من قبل الولايات المتحدة في مايو 2019، تواصل شركة هواوي الصينية مسيرتها التي تعد واحدة من أبرز قصص الصمود في قطاع التكنولوجيا الحديث. فقد فرضت العقوبات الأمريكية تحديات وجودية على عملاق الاتصالات، لا سيما في قطاع الهواتف الذكية، لكن الشركة تمكنت من إعادة تشكيل استراتيجياتها والبقاء كلاعب رئيسي، وإن كان بشكل مختلف.

خلفية العقوبات وتأثيرها الأولي
بدأت الأزمة عندما وضعت الإدارة الأمريكية شركة هواوي على ما يعرف بـ"قائمة الكيانات"، مشيرة إلى مخاوف تتعلق بالأمن القومي. أدى هذا الإجراء إلى قطع وصول هواوي إلى التقنيات والمكونات الأمريكية الحيوية. وكان التأثير المباشر والأكثر ضررًا هو حرمانها من استخدام خدمات جوجل للهاتف المحمول (GMS) في هواتفها الجديدة، مما جعل أجهزتها أقل جاذبية للمستخدمين خارج الصين. بالإضافة إلى ذلك، تم فرض قيود مشددة على قدرتها في الحصول على أشباه الموصلات والرقائق المتقدمة المصنعة باستخدام التكنولوجيا الأمريكية، مما أثر بشكل كبير على قسم تصميم الرقائق الخاص بها، هاي سيليكون (HiSilicon).
نتيجة لذلك، شهدت مبيعات هواوي العالمية من الهواتف الذكية انهيارًا كبيرًا، حيث تراجعت من مكانتها كأكبر بائع للهواتف في العالم لفترة وجيزة في عام 2020 إلى لاعب ثانوي في الأسواق الدولية. بدا مستقبل الشركة في قطاع المستهلكين قاتمًا، واضطرت إلى بيع علامتها التجارية الفرعية "أونر" (Honor) في محاولة لإنقاذها من نفس المصير.
استراتيجيات الصمود والتكيف
في مواجهة هذه التحديات، تبنت هواوي استراتيجية متعددة المحاور للنجاة والنمو، ركزت فيها على الابتكار المحلي وتنويع مصادر الإيرادات:
- الاعتماد على الذات في البرمجيات: عملت الشركة على تطوير نظام تشغيل خاص بها، هارموني أو إس (HarmonyOS)، كبديل لنظام أندرويد المدعوم من جوجل. كما استثمرت بكثافة في بناء متجر التطبيقات الخاص بها، AppGallery، والنظام البيئي المحيط به لجذب المطورين والمستخدمين.
- تنويع الأعمال: حوّلت هواوي تركيزها بشكل كبير من الهواتف الذكية إلى مجالات أخرى أقل اعتمادًا على التكنولوجيا الأمريكية. شمل ذلك التوسع في حلول الحوسبة السحابية، والذكاء الاصطناعي، وتقنيات السيارات الذكية، والأجهزة القابلة للارتداء، وحلول الطاقة الرقمية، مما أدى إلى خلق مصادر إيرادات جديدة ومستقرة.
- الاستثمار في البحث والتطوير: ضخت الشركة استثمارات هائلة في البحث والتطوير بهدف تحقيق اكتفاء ذاتي في مجال أشباه الموصلات. وعملت بشكل وثيق مع شركاء محليين في الصين، مثل شركة SMIC، لتطوير قدرات تصنيع الرقائق المتقدمة محليًا.
- التركيز على السوق الصيني: مع تراجع وجودها العالمي، عززت هواوي مكانتها في سوقها المحلي الضخم، حيث لا يزال ولاء المستهلكين للعلامة التجارية قويًا، ولا يشكل غياب خدمات جوجل عائقًا كبيرًا.
نقطة التحول: هاتف "ميت 60 برو"
في أغسطس 2023، فاجأت هواوي العالم بإطلاق هاتفها الذكي Mate 60 Pro. لم يكن مجرد هاتف جديد، بل كان بمثابة إعلان عن نجاح استراتيجيتها للاكتفاء الذاتي. كان الهاتف يعمل بشريحة Kirin 9000S المتقدمة، المصنعة في الصين بتقنية 7 نانومتر، وهو إنجاز كان يعتقد العديد من المحللين أنه مستحيل في ظل العقوبات. أثار هذا التطور جدلًا واسعًا في واشنطن حول فعالية القيود المفروضة، وأظهر قدرة الصين على تحقيق اختراقات تكنولوجية بشكل مستقل.
أدى إطلاق الهاتف إلى انتعاش كبير في مبيعات هواوي داخل الصين، مما مكنها من استعادة حصتها السوقية وتحدي لاعبين كبار مثل آبل في السوق الصيني الراقي. أثبتت الشركة أنها لم تصمد فحسب، بل تمكنت من الابتكار والعودة للمنافسة بقوة في قطاعها الأساسي.
المشهد الحالي والتأثير العالمي
بعد خمس سنوات، تبدو هواوي شركة مختلفة. فرغم أن أعمالها في مجال الهواتف الذكية على الساحة الدولية لم تعد كما كانت، إلا أنها أصبحت أكثر مرونة وتنوعًا وأقل اعتمادًا على سلاسل التوريد العالمية. قصة صمودها لا تمثل نجاحًا لشركة واحدة فقط، بل تعد مؤشرًا على تسارع وتيرة الجهود الصينية نحو الاكتفاء الذاتي التكنولوجي، مما قد يؤدي إلى إعادة تشكيل المشهد التكنولوجي العالمي وظهور نظامين بيئيين متوازيين، أحدهما بقيادة الولايات المتحدة والآخر بقيادة الصين.





