في حدث علمي بارز يعود إلى أكتوبر 2019، أعلنت شركة غوغل عن تحقيق ما أسمته بـ "التفوق الكمي"، وهو إنجاز يتناوله العنوان مشيراً إلى "شريحة ويلو". لكن، المعالج الكمي الذي حقق هذا الإنجاز البارز والذي تم الإعلان عنه عالمياً هو "سيكامور" (Sycamore). يمثل هذا الإعلان لحظة فارقة في تاريخ الحوسبة، حيث زعم الباحثون أن معالجهم الكمي قد أجرى حسابًا معينًا في غضون ثوانٍ معدودة، وهي مهمة ستستغرق أسرع الحواسيب الفائقة التقليدية آلاف السنين لإنجازها. وقد أثار هذا الادعاء جدلاً واسعاً حول تعريف التفوق الكمي وتداعياته المستقبلية على مجال التكنولوجيا.
الخلفية: ما هو التفوق الكمي؟
يشير مصطلح التفوق الكمي (Quantum Supremacy)، الذي صاغه الفيزيائي النظري جون بريسكيل في عام 2012، إلى النقطة التي يصبح فيها الحاسوب الكمي قادرًا على أداء مهمة حاسوبية معينة لا تستطيع أجهزة الحاسوب التقليدية الأكثر تقدمًا القيام بها في فترة زمنية عملية ومعقولة. لا يعني هذا بالضرورة أن الحاسوب الكمي قد حل مشكلة ذات فائدة عملية فورية، بل هو بالأحرى إثبات لمبدأ أن أجهزة الكمبيوتر الكمومية لديها القدرة على تجاوز نظيراتها الكلاسيكية في مهام محددة. تعتمد الحوسبة الكمومية على مبادئ ميكانيكا الكم، مثل التراكب (Superposition)، الذي يسمح للبت الكمومي (كيوبت) بتمثيل قيمتي 0 و1 في الوقت نفسه، والتشابك الكمي (Entanglement)، حيث ترتبط حالة الكيوبتات ببعضها البعض بطرق غير موجودة في الفيزياء الكلاسيكية. هذه الظوايا تمكن الحواسيب الكمومية من معالجة كميات هائلة من المعلومات بشكل متوازٍ، مما يمنحها إمكانات حسابية هائلة.
إنجاز غوغل بشريحة "سيكامور"
جاء إعلان غوغل في أكتوبر 2019 بعد سنوات من البحث والتطوير في مختبراتها. استخدم الفريق معالجًا كميًا يُدعى "سيكامور"، وهو عبارة عن شريحة تحتوي على 53 كيوبت وظيفي (من أصل 54). كانت المهمة التي كُلّفت بها الشريحة هي "أخذ عينات عشوائية من الدوائر" (Random Circuit Sampling)، وهي ليست مهمة ذات تطبيق مباشر في العالم الحقيقي، بل صُممت خصيصًا لتكون صعبة للغاية على أجهزة الحاسوب التقليدية. ادعى الباحثون أن "سيكامور" أكمل هذه المهمة في 200 ثانية فقط. في المقابل، قدّروا أن أسرع حاسوب فائق تقليدي في العالم آنذاك، وهو حاسوب "سوميت" (Summit) التابع لشركة IBM، سيستغرق حوالي 10,000 سنة لأداء نفس الحساب. وقد نُشرت تفاصيل هذا الإنجاز في مجلة Nature المرموقة.
الأهمية والتداعيات
يمثل إعلان غوغل عن التفوق الكمي علامة فارقة تاريخية، حيث قدّم أول دليل تجريبي ملموس على أن الحوسبة الكمومية قادرة نظريًا على تجاوز قدرات الحوسبة التقليدية. على الرغم من أن المهمة لم تكن ذات فائدة عملية مباشرة، إلا أنها أثبتت صحة المبادئ الأساسية للحوسبة الكمومية وأظهرت إمكاناتها الهائلة. وقد أدت هذه الخطوة إلى تسريع الاهتمام والاستثمار في هذا المجال على مستوى العالم، حيث تتسابق الشركات والحكومات لتطوير تقنيات كمومية أكثر قوة. على المدى الطويل، تُعِد الحواسيب الكمومية بفتح آفاق جديدة في مجالات مثل:
- اكتشاف الأدوية وتطوير المواد: من خلال محاكاة الجزيئات المعقدة والتفاعلات الكيميائية بدقة غير مسبوقة.
- الذكاء الاصطناعي: تحسين خوارزميات التعلم الآلي والشبكات العصبية.
- المالية: نماذج أفضل للمخاطر وتحسين المحافظ الاستثمارية.
- التشفير: تطوير طرق تشفير جديدة مقاومة للكم وإنشاء شبكات اتصالات كمومية آمنة.
الجدل والتحديات
لم يمر ادعاء غوغل دون جدل. فقد سارعت شركة IBM، المنافس الرئيسي في مجال الحوسبة الكمومية، إلى تحدي ادعاء "التفوق"، مشيرة إلى أن حاسوبها الفائق "سوميت" يمكنه بالفعل أداء المهمة المذكورة في غضون 2.5 يومًا تقريبًا، وليس 10,000 عام، وذلك باستخدام تقنيات محسّنة وبرمجيات أكثر تطوراً وتوظيف الذاكرة الكبيرة للحاسوب الفائق. رأت IBM أن الفارق كان "ميزة" وليس "تفوقًا" بالمعنى المطلق. وقد سلط هذا الجدل الضوء على الطبيعة الدقيقة للمهام التي تُظهر التفوق الكمي، وأكد أن هذه الإنجازات لا تعني بالضرورة أن أجهزة الكمبيوتر الكمومية أصبحت جاهزة لحل مشاكل العالم الحقيقي. لا تزال أجهزة الكمبيوتر الكمومية في مراحلها الأولى، وتواجه تحديات كبيرة تشمل:
- معدلات الأخطاء المرتفعة: الكيوبتات حساسة للغاية للضوضاء وتفقد حالتها الكمومية (الترابط) بسهولة، مما يؤدي إلى أخطاء.
- قابلية التوسع: بناء أجهزة كمبيوتر كمومية مستقرة وعملية بمئات أو آلاف الكيوبتات لا يزال يمثل تحديًا هندسيًا هائلاً.
- التطبيقات العملية: لا يزال الطريق طويلاً لتطوير خوارزميات كمومية مفيدة على نطاق واسع.
التطورات اللاحقة والآفاق المستقبلية
منذ إعلان غوغل عام 2019، استمر البحث والتطوير في مجال الحوسبة الكمومية بوتيرة متسارعة. تواصل غوغل وIBM ومنافسون آخرون مثل مايكروسوفت وأمازون (مع خدمة Amazon Braket) وجهات حكومية وجامعات، جهودهم لزيادة عدد الكيوبتات وتقليل معدلات الأخطاء. يتم التركيز بشكل كبير على تطوير تقنيات تصحيح الأخطاء الكمومية، والتي تعتبر حاسمة لبناء حواسيب كمومية متسامحة مع الأخطاء، وهي الضرورة الأساسية للحوسبة الكمومية واسعة النطاق. على الرغم من أن "التفوق الكمي" أثبت الإمكانات النظرية، فإن تحقيق حواسيب كمومية عملية وقابلة للاستخدام على نطاق واسع لا يزال يتطلب عقودًا من البحث والابتكار. يُنظر إلى إنجاز غوغل بشريحة "سيكامور" كخطوة أولى جريئة نحو مستقبل قد تتغير فيه الحوسبة كما نعرفها.



