إصرار أميركي على اتفاق غزة: الدوافع الكامنة وتحديات المرحلة الثانية

مؤخرًا، تبرز الولايات المتحدة الأمريكية كقوة دافعة حاسمة وراء جهود التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، متجاهلةً ما يُنظر إليه على أنه محاولات إسرائيلية لعرقلة أو تأجيل تنفيذ بنود الصفقة المقترحة. يبدو هذا الإصرار الأميركي نابعًا من مجموعة معقدة من الدوافع الجيوسياسية والإنسانية والسياسية الداخلية، مما يضع سيناريو ما بعد الاتفاق أمام تحديات جمة، لاسيما فيما يتعلق بالمرحلة الثانية التي تشمل قضايا حساسة مثل نزع سلاح الفصائل الفلسطينية، كما يرى محللون ومراقبون.

خلفية الأزمة والجهود الدبلوماسية

شهد قطاع غزة منذ هجوم السابع من أكتوبر الماضي تصعيدًا غير مسبوق في الصراع، مما أسفر عن كارثة إنسانية واسعة النطاق أثارت قلقًا دوليًا بالغًا. تسببت العمليات العسكرية المستمرة في دمار هائل ونزوح جماعي لسكان القطاع، وتفاقم أزمة الغذاء والدواء بشكل خطير. في ظل هذه الظروف، تزايدت الضغوط الدولية المطالبة بوقف فوري لإطلاق النار وإدخال المساعدات الإنسانية بكميات كافية.

برزت الإدارة الأمريكية، بالتعاون مع مصر وقطر، كلاعب رئيسي في جهود الوساطة الرامية للتوصل إلى هدنة. قدم الرئيس الأمريكي جو بايدن في أواخر مايو خطة شاملة لوقف إطلاق النار تتكون من ثلاث مراحل، تهدف الأولى إلى وقف القتال الجزئي وتبادل الرهائن والسجناء، والثانية إلى إنهاء دائم للأعمال العدائية وسحب القوات الإسرائيلية، أما المرحلة الثالثة فتتضمن خطة لإعادة إعمار غزة وتبادل الرفات المتبقية.

دوافع واشنطن للضغط على الصفقة

يتفق المحللون على أن إصرار واشنطن على تنفيذ اتفاق غزة لا يعكس فقط التزامًا بالجانب الإنساني، بل يتعداه إلى رؤية استراتيجية أوسع. تتعدد الدوافع التي تدفع الإدارة الأمريكية لفرض هذا الاتفاق، وتشمل:

الأزمة الإنسانية والضغط الدولي: تزايدت الانتقادات الدولية والمحلية للولايات المتحدة بسبب دعمها لإسرائيل في ظل الكارثة الإنسانية المتفاقمة في غزة. يُنظر إلى الصفقة كسبيل لتخفيف هذه الضغوط واستعادة بعض من مصداقية واشنطن كقوة إنسانية.
تجنب التصعيد الإقليمي: تخشى الولايات المتحدة من اتساع رقعة الصراع ليشمل جبهات أخرى في المنطقة، لا سيما مع تنامي التوتر على الحدود اللبنانية وحوادث استهداف السفن في البحر الأحمر. يُعد وقف إطلاق النار في غزة خطوة أساسية لتهدئة المنطقة بأكملها.
الحسابات الانتخابية الداخلية: يواجه الرئيس بايدن عامًا انتخابيًا صعبًا، حيث تراجعت شعبيته بين شرائح واسعة من الناخبين، خاصة الشباب والمجتمعات العربية والإسلامية في أمريكا، بسبب موقف إدارته من حرب غزة. يمكن للصفقة أن تساعد في استعادة جزء من هذه القاعدة الانتخابية.
غياب رؤية إسرائيلية لـ "اليوم التالي": تعرب واشنطن عن قلقها المتزايد من عدم وجود خطة إسرائيلية واضحة لمستقبل غزة بعد الحرب، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى فراغ أمني وفوضى تستغلها قوى متطرفة. تدفع الولايات المتحدة نحو صفقة تتضمن مسارًا سياسيًا طويل الأمد.
الحفاظ على حل الدولتين: ترى الإدارة الأمريكية أن حل الدولتين هو المسار الوحيد القابل للتطبيق لتحقيق السلام والاستقرار في المنطقة، وتعتبر أن استمرار الصراع الحالي يهدد بتقويض فرص هذا الحل بشكل دائم.

التحديات الإسرائيلية والعقبات الداخلية

على الرغم من الضغط الأمريكي، تواجه إسرائيل تحديات داخلية وسياسية معقدة تعرقل قبولها الكامل والسريع للصفقة. يرى محللون أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وحكومته اليمينية يواجهون معارضة شديدة من شركاء الائتلاف المتشددين الذين يعارضون أي اتفاق قد يُنظر إليه على أنه "انتصار لحماس" أو يترك الحركة سليمة. يصر هؤلاء الشركاء على تحقيق "النصر المطلق" والقضاء التام على قدرات حماس العسكرية والإدارية.

كما أن قضية الرهائن تظل نقطة خلاف، حيث تصر بعض الجهات الإسرائيلية على استعادة جميع الرهائن دون شروط، بينما يخشى آخرون من أن تؤدي الصفقة إلى إطلاق سراح عدد كبير من الأسرى الفلسطينيين ذوي الأحكام العالية. بالإضافة إلى ذلك، فإن الخلاف حول "اليوم التالي" في غزة ما زال يثير جدلاً واسعًا داخل القيادة الإسرائيلية، مع تباين الرؤى حول من سيحكم القطاع وكيفية تأمين حدوده.

المرحلة الثانية: تحدي نزع سلاح الفصائل الفلسطينية

تُشكل المرحلة الثانية من الاتفاق، التي تهدف إلى إنهاء دائم للأعمال العدائية وسحب القوات الإسرائيلية مقابل إجراءات أمنية، بما في ذلك نزع سلاح الفصائل الفلسطينية، العقبة الأكثر تعقيدًا. يطرح هذا البند تساؤلات جوهرية حول كيفية تنفيذه ومدى واقعيته:

تعريف الفصائل: من هم "الفصائل" التي يشملها نزع السلاح؟ وهل ستشمل الفصائل الرئيسية مثل حماس والجهاد الإسلامي فقط، أم تمتد لتشمل مجموعات أخرى؟
مدى قبول حماس: ترفض حركة حماس، وفقًا لتصريحات قياداتها، أي تفاوض على نزع سلاحها قبل ضمان وقف دائم لإطلاق النار وانسحاب كامل للقوات الإسرائيلية، وتقديم ضمانات دولية بعدم تجدد الهجمات.
السيادة الفلسطينية: يخشى البعض أن يؤدي نزع السلاح إلى تقويض أي سلطة فلسطينية مستقبلية في غزة، ويترك القطاع عرضة للتدخلات الخارجية دون قوة دفاعية ذاتية.
الآليات التنفيذية: لا تزال آليات تنفيذ نزع السلاح غير واضحة. هل ستكون هناك قوة دولية لمراقبة ذلك؟ وما هو دور السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية في هذا السيناريو؟
الضمانات الأمنية: تطالب الفصائل الفلسطينية بضمانات أمنية قوية لحماية السكان من أي عدوان مستقبلي قبل مناقشة تسليم أسلحتها.

الآثار المحتملة على مستقبل غزة والمنطقة

إن نجاح أو فشل الجهود الأمريكية لتنفيذ اتفاق غزة سيكون له تداعيات بعيدة المدى على مستقبل القطاع والمنطقة بأسرها. إذا تم تنفيذ الاتفاق بنجاح، فإنه قد يفتح الباب أمام مرحلة من الاستقرار وإعادة الإعمار، مع إمكانية إحياء مسار سياسي يؤدي إلى حل الدولتين. ومع ذلك، فإن الفشل قد يؤدي إلى استمرار الصراع وتفاقم الأزمة الإنسانية وتزايد خطر التصعيد الإقليمي.

يستمر الجدل حول ما إذا كانت واشنطن قادرة على التوفيق بين المصالح المتضاربة للأطراف، ودفع جميع الأطراف نحو التنازلات اللازمة لضمان سلام مستدام. يبقى الضغط الأمريكي عاملاً حاسمًا في هذه المعادلة المعقدة، مع ترقب عالمي لما ستؤول إليه الأمور في الأيام والأسابيع القادمة.