العراق يحقق الاكتفاء الذاتي من غاز الطبخ وخطة لرفع تصديره

يمثل قطاع الطاقة في العراق حجر الزاوية لاقتصاده، وقد شهد مؤخرًا تطورات محورية تشير إلى تحول استراتيجي هام. فقد أعلنت وزارة النفط العراقية، في إعلانات حديثة صدرت خلال الأشهر الماضية، عن تحقيق البلاد للاكتفاء الذاتي من غاز الطبخ (غاز البترول المسال)، في خطوة تمثل إنجازًا اقتصاديًا وبيئيًا بارزًا. ويأتي هذا الإنجاز كجزء من خطة أوسع تهدف إلى إيقاف حرق الغاز المصاحب لإنتاج النفط بشكل كامل، وتحويل العراق من مستورد إلى مصدر للغاز.

لطالما عانى العراق، وهو ثاني أكبر منتج للنفط في أوبك، من مفارقة غريبة تتمثل في استيراد غاز الطبخ والغاز الطبيعي لتلبية جزء من احتياجاته المحلية، في الوقت الذي كان يحرق فيه كميات هائلة من الغاز المصاحب لاستخراج النفط. هذا الحرق الروتيني، الذي يعرف بـ«اللهيب»، تسبب في خسائر اقتصادية تقدر بمليارات الدولارات سنويًا، بالإضافة إلى تداعيات بيئية خطيرة شملت انبعاثات ضارة ساهمت في تلوث الهواء والتغير المناخي.

خلفية وتحديات تاريخية

على مدى عقود، شكل حرق الغاز المصاحب تحديًا رئيسيًا للعراق بسبب نقص البنية التحتية اللازمة لجمع ومعالجة هذا الغاز. كان هذا يعني إهدار مورد طبيعي ثمين يمكن استخدامه لتوليد الكهرباء، وتشغيل المصانع، وتلبية احتياجات المنازل من غاز الطبخ. وقد أثر هذا الوضع سلبًا على ميزان المدفوعات العراقي نظرًا للحاجة إلى استيراد الغاز، كما فاقم من المشكلات البيئية في مناطق الإنتاج النفطي. ورغم المحاولات السابقة لمعالجة هذه القضية، إلا أن تعقيدات التمويل والاستقرار السياسي والأمني كانت تعيق التقدم المطلوب.

مبادرات رئيسية وتطورات حديثة

تستند قصة نجاح العراق الأخيرة في تحقيق الاكتفاء الذاتي من غاز الطبخ إلى استراتيجية حكومية طموحة ومشاريع كبرى تم تنفيذها مؤخرًا. من أبرز هذه المشاريع:

شركة غاز البصرة (BGC): وهي مشروع مشترك بين شركة غاز الجنوب العراقية وشركتي شل وميتسوبيشي، لعبت دورًا محوريًا في جمع ومعالجة الغاز المصاحب من حقول الرميلة والزبير وغرب القرنة 1. وقد توسعت قدراتها بشكل كبير خلال السنوات الماضية، مما ساهم في زيادة إنتاج غاز البترول المسال والغاز الجاف.
مشروع تطوير الغاز المتكامل مع توتال إنرجيز (GGIP): في أواخر عام 2023، تم وضع اللمسات الأخيرة على اتفاقية بقيمة 27 مليار دولار مع شركة توتال إنرجيز الفرنسية. يهدف هذا المشروع الطموح إلى جمع ومعالجة الغاز المصاحب من أربعة حقول نفطية كبرى في جنوب العراق (أرطاوي، غرب القرنة 2، مجنون، وطوبة)، بهدف إنتاج ما يصل إلى 600 مليون قدم مكعب قياسي يوميًا من الغاز. هذا المشروع يعتبر حجر زاوية في استراتيجية العراق لوقف حرق الغاز وتأمين احتياجاته المحلية.
الجهود الوطنية وتطوير البنية التحتية: بالتوازي مع المشاريع الكبرى، عملت وزارة النفط والشركات النفطية الوطنية على تطوير وحدات معالجة الغاز وتحديث خطوط الأنابيب، مما مكن من تجميع ما يزيد عن 80% من الغاز المصاحب الذي كان يُحرق سابقًا في بعض الحقول، وتحويله إلى منتجات مفيدة.

وأكدت وزارة النفط أن هذه الجهود أدت إلى إنهاء الحرق الروتيني للغاز في ثلاثة حقول رئيسية بحلول عام 2028، وهو هدف كان يبدو بعيد المنال في السابق، ويعكس التزام الحكومة بإنهاء هذه الممارسة الضارة والمهدرة.

الآثار الاقتصادية والبيئية

يمثل تحقيق الاكتفاء الذاتي من غاز الطبخ خطوة ذات تأثيرات متعددة الأبعاد:

اقتصاديًا: يساهم هذا الإنجاز في توفير مبالغ ضخمة من العملة الصعبة كانت تُنفق على استيراد غاز الطبخ. كما يفتح الباب أمام تحقيق إيرادات إضافية من تصدير الفائض من الغاز في المستقبل، مما يدعم الموازنة العامة للدولة ويسهم في تنويع مصادر الدخل. ويعزز الأمن الطاقوي للبلاد ويقلل من تبعيتها للسوق العالمية.
بيئيًا: سيسهم التوقف عن حرق الغاز المصاحب في خفض كبير لانبعاثات غازات الاحتباس الحراري مثل ثاني أكسيد الكربون والميثان، بالإضافة إلى تقليل ملوثات الهواء الأخرى. هذا التحسين البيئي لا يعود بالنفع على صحة المجتمعات المحلية فحسب، بل يدعم أيضًا التزامات العراق الدولية في مجال مكافحة التغير المناخي.
تنمويًا: توفر هذه المشاريع فرص عمل جديدة وتدعم الصناعات المرتبطة بقطاع النفط والغاز، مما يساهم في النمو الاقتصادي الشامل.

الخطة المستقبلية والتصدير

مع تحقيق الاكتفاء الذاتي من غاز الطبخ، تتجه أنظار العراق الآن نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي من الغاز الطبيعي الجاف لتوليد الكهرباء، ثم التوجه نحو التصدير. تهدف الخطة الحكومية إلى تحويل العراق إلى مركز إقليمي لإنتاج وتصدير الغاز، مستفيدًا من احتياطياته الكبيرة. من المتوقع أن يتم تصدير الغاز الطبيعي بعد تلبية كامل احتياجات محطات توليد الطاقة الكهربائية، والتي تمثل المستهلك الأكبر للغاز. تشمل خطط التصدير المحتملة مد خطوط أنابيب إلى الدول المجاورة أو تطوير محطات لتسييل الغاز الطبيعي (LNG) للتصدير البحري.

يواجه العراق بعض التحديات المتبقية في مسعاه ليصبح لاعبًا رئيسيًا في سوق الغاز العالمي، بما في ذلك الحاجة إلى المزيد من الاستثمار في البنية التحتية، وتعزيز الاستقرار الأمني، وضمان إطار قانوني مستقر وجذاب للمستثمرين الدوليين. ومع ذلك، فإن الإنجاز الأخير في غاز الطبخ يمثل مؤشرًا قويًا على قدرة العراق على تحقيق أهدافه الطاقوية الأوسع، مما يبشر بمستقبل أكثر استقرارًا وازدهارًا للبلاد.