صفقة غزة: توازن القوى بين الضغوط الأمريكية والحسابات الإسرائيلية

تشهد جهود التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في قطاع غزة مرحلة حاسمة، تتصادم فيها المساعي الدبلوماسية التي تقودها الولايات المتحدة مع الحسابات السياسية المعقدة داخل الحكومة الإسرائيلية. وفيما تكثف واشنطن ضغوطها لتمرير مقترح جديد، يظل السؤال المحوري قائماً حول من يمتلك الكلمة الفصل في تحديد مسار الحرب والسلام في المنطقة.

خلفية المفاوضات ومسارها

تأتي هذه الجولة من المباحثات في أعقاب أشهر من الحرب المدمرة التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة رداً على هجوم حركة حماس في 7 أكتوبر الماضي. وقد أدت العمليات العسكرية إلى أزمة إنسانية غير مسبوقة، مما زاد من حدة الضغوط الدولية على جميع الأطراف للتوصل إلى حل يوقف نزيف الدماء ويسمح بدخول المساعدات الإنسانية بشكل كافٍ.

وعلى مدار الأشهر الماضية، قادت مصر وقطر جهود وساطة مكثفة، لكنها لم تنجح في تحقيق اختراق دائم. وتتميز المبادرة الحالية بأنها تحظى بدعم أمريكي مباشر وقوي، حيث انتقلت إدارة الرئيس جو بايدن من دور الوسيط التقليدي إلى لاعب أساسي يطرح المبادرات ويسعى لحشد الدعم الدولي لها، وهو ما تجلى مؤخراً في تبني مجلس الأمن الدولي قراراً يدعم الخطة المقترحة.

تفاصيل المبادرة الأمريكية

في خطاب ألقاه في نهاية شهر مايو الماضي، كشف الرئيس الأمريكي جو بايدن عن مقترح من ثلاث مراحل وصفه بأنه "خارطة طريق لإنهاء الأزمة". وتتضمن الخطة، التي قُدمت على أنها مبادرة إسرائيلية، الخطوات التالية:

المرحلة الأولى: تشمل وقفاً فورياً لإطلاق النار لمدة ستة أسابيع، وانسحاب القوات الإسرائيلية من جميع المناطق المأهولة بالسكان في غزة. وفي المقابل، تطلق حماس سراح عدد من المحتجزين لديها، خاصة النساء وكبار السن والجرحى، مقابل إطلاق سراح مئات الأسرى الفلسطينيين من السجون الإسرائيلية، بالإضافة إلى زيادة كبيرة في حجم المساعدات الإنسانية.
المرحلة الثانية: تتضمن مفاوضات للتوصل إلى وقف دائم للأعمال العدائية. وخلال هذه المرحلة، يتم إطلاق سراح جميع المحتجزين الأحياء المتبقين، بما في ذلك الجنود، مقابل انسحاب كامل للقوات الإسرائيلية من القطاع.
المرحلة الثالثة: تركز على إطلاق خطة إعادة إعمار واسعة النطاق في غزة، وإعادة رفات من تبقى من المحتجزين المتوفين.

الموقف الإسرائيلي: انقسامات داخلية عميقة

على الرغم من أن واشنطن قدمت الخطة على أنها إسرائيلية المنشأ، إلا أنها أثارت انقسامات حادة داخل الائتلاف الحكومي الذي يقوده رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. يواجه نتنياهو ضغوطاً من اتجاهين متعاكسين؛ فمن جهة، يضغط عليه شركاؤه في اليمين المتطرف، مثل وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش، لرفض أي اتفاق لا يضمن "القضاء التام" على حماس، مهددين بإسقاط الحكومة إذا وافق على وقف دائم للحرب.

ومن جهة أخرى، يتعرض لضغوط هائلة من عائلات المحتجزين وقطاعات واسعة من الشارع الإسرائيلي، بالإضافة إلى أعضاء أكثر اعتدالاً في المشهد السياسي، الذين يرون في الاتفاق فرصة لإنقاذ حياة المحتجزين. وقد أدت هذه التجاذبات إلى تعميق حالة عدم اليقين السياسي، والتي تجسدت في استقالة الوزير في مجلس الحرب بيني غانتس مؤخراً، الذي اتهم نتنياهو بترجيح حساباته السياسية الشخصية على المصالح الوطنية.

نفوذ واشنطن بين الدعم والضغط

تلعب الولايات المتحدة دوراً محورياً لا يمكن تجاهله، فهي الحليف الاستراتيجي الأكبر لإسرائيل والمصدر الرئيسي لدعمها العسكري والدبلوماسي. هذا الدعم يمنح واشنطن نفوذاً كبيراً، لكنها تستخدمه بحذر. ففي حين تواصل الإدارة الأمريكية تأكيدها على "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، فإنها في الوقت ذاته تمارس ضغوطاً متزايدة خلف الكواليس وفي العلن لدفع نتنياهو نحو القبول بالاتفاق المقترح.

ويعود الاهتمام الأمريكي بإنهاء الحرب إلى عدة عوامل، منها المخاوف من اتساع رقعة الصراع إقليمياً، والوضع الإنساني الكارثي في غزة، بالإضافة إلى اعتبارات السياسة الداخلية الأمريكية مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية. لذلك، فإن التحركات الأمريكية، بما فيها طرح القرار في مجلس الأمن، تهدف إلى وضع الكرة في ملعب كل من إسرائيل وحماس، وزيادة عزلة الطرف الذي يرفض التقدم في المسار السلمي.

من يملك القرار النهائي؟

في نهاية المطاف، يبدو أن القرار النهائي ليس بيد جهة واحدة، بل هو نتاج تفاعل معقد بين عدة قوى. فعلى الورق، تملك الحكومة الإسرائيلية السيادة لاتخاذ القرار، لكنها في الواقع مقيدة بشدة بالضغوط الأمريكية، والانقسامات الداخلية، وموقف حركة حماس من المقترح. وبالتالي، فإن مصير الاتفاق يعتمد على قدرة نتنياهو على الموازنة بين متطلبات بقائه السياسي وبين النفوذ الذي تمارسه واشنطن، والذي يبدو أنه وصل إلى مستويات غير مسبوقة في الأسابيع الأخيرة.