الشيخ صالح الفوزان: عمود العلم والثبات في الإفتاء

تُعد شخصية الشيخ صالح بن فوزان الفوزان من أبرز المراجع العلمية والدينية في العالم الإسلامي المعاصر، ويُنظر إليه على نطاق واسع كأحد الأركان الأساسية للعلم الشرعي والإفتاء. يعكس وصفه بأنه "مفتٍ عام" - ليس بالضرورة باللقب الرسمي للمفتي العام للمملكة، بل بوزنه العلمي وتأثير فتاواه المنتشرة - تكريمًا عميقًا لمسيرته الحافلة بالعطاء المعرفي والثبات على المنهج السلفي الأصيل. هذه المكانة المرموقة التي اكتسبها الشيخ الفوزان على مدار عقود طويلة، تجعله محور اهتمام العديد من المتابعين والباحثين عن التوجيه الديني السديد في قضايا الدين والحياة.

الخلفية والنشأة العلمية

وُلد الشيخ صالح الفوزان في عام 1354هـ (الموافق 1935م) في محافظة الشماسية بمنطقة القصيم بالمملكة العربية السعودية. بدأ رحلته العلمية مبكرًا، حيث تلقى تعليمه الأولي في بلدته على يد عدد من العلماء، ثم التحق بالمعهد العلمي في بريدة، ومنه إلى كلية الشريعة بالرياض، وتخرج فيها عام 1380هـ. لم يتوقف طموحه العلمي عند هذا الحد، بل واصل دراساته العليا حتى نال درجة الماجستير والدكتوراه في الفقه من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.

تتلمذ الشيخ الفوزان على يد كوكبة من كبار العلماء الأجلاء الذين تركوا بصمات واضحة في تكوينه العلمي والمنهجي، أمثال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز، وسماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (المفتي العام السابق للمملكة)، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي، والشيخ عبدالرزاق عفيفي. هذه النشأة العلمية المتينة ساهمت في صقل شخصيته الفقهية والعقدية، وجعلت منه فقيهًا متمكنًا ومحدثًا بارعًا.

إسهاماته العلمية ومنهجه

يشغل الشيخ الفوزان حاليًا عضوية هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، وهي أعلى هيئة علمية تُعنى بالإفتاء والبحث العلمي الشرعي، بالإضافة إلى عضويته في اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، والتي تُعد المرجع الأول للمسلمين في المملكة وخارجها. وقد مر الشيخ بمراحل وظيفية متعددة، منها التدريس في المعهد العلمي ببريدة، ثم في كلية الشريعة بالرياض، ثم رئاسة قسم الفقه في الجامعة، وصولًا إلى رئاسة المحكمة الكبرى بالرياض.

تتجلى إسهامات الشيخ الفوزان في مؤلفاته العديدة التي تغطي جوانب الفقه والعقيدة والحديث والتفسير، ومن أشهرها "الملخص الفقهي" و"إتحاف أهل الإيمان بدروس شهر رمضان" و"شرح العقيدة الواسطية". يتميز منهجه العلمي بالآتي:

الالتزام بالدليل: يعتمد الشيخ في فتاواه وشروحاته على القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة بفهم سلف الأمة.
الوضوح والتبسيط: يقدم المسائل الشرعية بأسلوب واضح ومباشر يسهل على طالب العلم والعامي فهمه.
التعمق في المسائل: لا يكتفي بالظاهر بل يبحث في أصول المسائل وفروعها، مستعرضًا أقوال العلماء وأدلتهم.
الثبات على المنهج السلفي: يُعرف عنه تمسكه الشديد بالعقيدة السلفية النقية والتحذير من البدع والمحدثات، مما أكسبه صفة الثبات التي أشار إليها العنوان الأصلي.

أهمية مكانته ودوره كـ"مفتٍ مؤثر"

إن وصف الشيخ الفوزان بأنه "مفتٍ عام" يعكس الثقة الكبيرة التي يوليها له المسلمون في شتى بقاع الأرض، باعتباره مصدرًا موثوقًا للفتاوى الشرعية، حتى وإن لم يكن يحمل اللقب الرسمي للمفتي العام للمملكة. تنبع هذه المكانة من عوامل عدة:

عمق علمه: فهو من كبار العلماء الذين جمعوا بين العلم النظري والتطبيق العملي، ويتمتع ببحوث واسعة واجتهادات فقهية معتبرة.
ثباته على الحق: لم يتغير منهجه أو تتأثر آراؤه بالظروف أو الأهواء، مما أكسبه احترام الجميع وثقة الباحثين عن الحقيقة الشرعية.
شمولية فتاواه: تتناول فتاواه وقضاياه المطروحة مجالات واسعة تشمل العقيدة والعبادات والمعاملات والقضايا المعاصرة، مما يجعله مرجعًا لمختلف نواحي الحياة.
انتشار علمه: يتم نشر فتاواه ودروسه ومحاضراته عبر مختلف الوسائل الإعلامية والمنصات الرقمية، ويستمع إليه الملايين، مما يجعل تأثيره واسع النطاق وعابرًا للحدود.

تأتي هذه الأهمية في سياق الحاجة الملحة للتوجيه الديني في زمن تكثر فيه الفتن والشبهات ويختلط فيه الحق بالباطل. يسهم الشيخ الفوزان، بصفته مرجعًا علميًا بارزًا، في توجيه الأمة نحو الصراط المستقيم، محافظًا على هويتها الدينية من التشتت والضلال من خلال فتاواه الواضحة والمبنية على الدليل.

التأثير والإرث المستمر

إن إرث الشيخ صالح الفوزان يتجاوز مجرد كونه عالمًا أو فقيهًا؛ إنه يمثل رمزًا للثبات العلمي والمنهجي الذي يقتدي به طلاب العلم وعموم المسلمين. لقد ساهمت مسيرته العلمية الحافلة في إثراء المكتبة الإسلامية، وتخريج أجيال من طلاب العلم الذين تتلمذوا على يديه أو استفادوا من علمه المنتشر. كما أن حضوره المستمر في هيئات الإفتاء العليا يعزز من المرجعية الدينية الرصينة في المملكة العربية السعودية والعالم الإسلامي.

يستمر الشيخ الفوزان في عطائه العلمي، مقدمًا الفتاوى والنصائح، ومرسخًا قيم العلم والعمل والتقوى، ليظل بذلك "عمود العلم والثبات في الإفتاء" ومصدر هداية للأجيال القادمة، تجسيدًا حيًا لتكريم العلم وثناء الثبات.