ذكرى ميلاد جاذبية سري: مسيرة فنية احتفت بالمرأة المصرية

تحيي الأوساط الثقافية والفنية في مصر والعالم العربي ذكرى ميلاد الفنانة التشكيلية الرائدة جاذبية سري، التي ولدت في مثل هذا اليوم من عام 1925. تُعد سري أيقونة في الفن المصري الحديث، حيث كرست جزءاً كبيراً من مسيرتها الفنية الطويلة للاحتفاء بالمرأة المصرية، مبرزةً قوتها وصمودها ودورها المحوري في المجتمع من خلال لوحاتها التي تنوعت بين الواقعية والتجريدية. لم تكن جاذبية مجرد رسامة، بل كانت مؤرخة بصرية للحياة المصرية وتطوراتها الاجتماعية، مفسرةً الواقع عبر رؤاها الفنية الثاقبة التي ما زالت تلقى صدى واسعاً حتى اليوم.

خلفية فنية ومسيرة تعليمية

ولدت جاذبية سري في القاهرة عام 1925، وبدأ شغفها بالفن التشكيلي في سن مبكرة. التحقت بـ كلية الفنون الجميلة بالقاهرة، وتخرجت منها عام 1948، ثم حصلت على دبلوم التربية الفنية في العام التالي، 1949. لم تكتفِ سري بالتعليم الأكاديمي في مصر، بل سعت إلى صقل موهبتها وتوسيع آفاقها الفنية من خلال بعثات دراسية في الخارج. درست في روما بإيطاليا، ثم في باريس بفرنسا، ومن بعدها في لندن بالمملكة المتحدة. هذه التجارب الدولية أثرت بشكل عميق في رؤيتها الفنية ومنهجها الإبداعي، ووسعت من مداركها الثقافية والفنية.

عقب عودتها إلى مصر، بدأت جاذبية سري مسيرة مهنية مزدوجة كفنانة ومعلمة. عملت في بداية الأمر كمدرسة للتربية الفنية، وتدرجت في السلك الأكاديمي حتى وصلت إلى منصب أستاذة التصوير بـ كلية التربية الفنية بجامعة حلوان، حيث أسهمت بفاعلية في تعليم وإلهام أجيال من الفنانين المصريين، وتركيزها على تنمية الحس الجمالي لدى طلابها.

الرحلة الفنية وتصوير المرأة المصرية

تميزت مسيرة جاذبية سري الفنية بتطور مستمر وتنوع في الأساليب. بدأت أعمالها الأولى بلمسة واقعية تصور الحياة المصرية اليومية، خاصةً في الأحياء الشعبية، وتقدم مشاهد من النضال الاجتماعي والمعيشي لسكان المدن. مع مرور الوقت، تحولت لوحاتها تدريجياً نحو التعبيرية التجريدية، حيث استخدمت الألوان الجريئة والخطوط القوية لتعبر عن مشاعر عميقة وأبعاد فلسفية، دون أن تفقد ارتباطها بالواقع المصري أو هويته الثقافية.

كانت المرأة المصرية محوراً أساسياً في معظم أعمالها. لم تكن سري تصور المرأة كمجرد جسد أو كيان سلبي، بل كانت ترى فيها رمزاً للصمود والعطاء والقوة الكامنة في المجتمع. في لوحاتها، تظهر المرأة المصرية بأشكال متنوعة تعكس أدوارها المتعددة: الأم، العاملة، الصديقة، المناضلة في سبيل أسرتها ووطنها. حرصت سري على إبراز كرامة المرأة وعزتها، مقدمة إياها كشريك فاعل وأساسي في بناء المجتمع والحفاظ على الهوية الوطنية. من خلال ريشتها، منحت جاذبية سري صوتاً مرئياً للمرأة المصرية، ونقلت تجربتها الإنسانية الغنية بتفاصيلها ورمزيتها.

جوائز وتكريمات دولية ومحلية

حظيت جاذبية سري بتقدير كبير على الصعيدين المحلي والدولي، وحصلت على العديد من الجوائز والتكريمات الرفيعة التي شهدت على مكانتها البارزة في الفن التشكيلي. من أبرز هذه التكريمات التي نالتها خلال مسيرتها:

جائزة الدولة التقديرية في الفنون عام 1998، وهي واحدة من أرفع الجوائز الفنية في مصر وتقديراً لمجمل أعمالها.
جائزة روما في 1952، مما سمح لها بالدراسة في إيطاليا وصقل موهبتها.
العديد من الجوائز من بينالي الإسكندرية الدولي وبينالي فينيسيا وبينالي ساو باولو، مما يؤكد حضورها القوي وتأثيرها في المشهد الفني العالمي.

كما عُرضت أعمالها في متاحف ومعارض كبرى حول العالم، بما في ذلك متحف الفن الحديث بنيويورك، وتيت مودرن بلندن، والمتحف الوطني ببرلين، بالإضافة إلى مجموعات خاصة وعامة مرموقة، مما يدل على عالمية فنها وتأثيره.

الإرث والتأثير

تُعد جاذبية سري من الفنانات اللاتي أحدثن نقلة نوعية في الفن التشكيلي المصري والعربي. لقد نجحت في المزج بين الأصالة والمعاصرة، وقدمت أسلوباً فنياً فريداً يجمع بين التعبير عن الهوية المصرية والانفتاح على الاتجاهات الفنية العالمية. إرثها لا يقتصر على جماليات لوحاتها فحسب، بل يمتد ليشمل رسالتها العميقة حول دور المرأة ومكانتها، وكيف يمكن للفن أن يكون أداة قوية للتعبير عن القضايا المجتمعية والإنسانية والتحولات التي طرأت على المجتمع المصري.

في ذكرى ميلادها، تتجدد أهمية أعمال جاذبية سري كشاهد على حقبة فنية وثقافية غنية، وكمصدر إلهام دائم للأجيال الجديدة من الفنانين والمثقفين، ليس فقط في مصر بل في العالم أجمع، للاستمرار في البحث عن الجمال والقوة في الهوية الإنسانية والتعبير عنها بصدق وجرأة.