الإفلات من العقاب: حلقة مفرغة تغذي العنف في السودان

منذ اندلاع الصراع بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع في أبريل 2023، غرقت البلاد في دوامة من العنف الوحشي الذي لم يسبق له مثيل في تاريخها الحديث. لكن ما يغذي هذه الحرب ليس فقط الخلافات السياسية والعسكرية، بل ثقافة متجذرة من الإفلات من العقاب، حيث مرت عقود من الجرائم الفظيعة دون محاسبة، مما مهد الطريق للكارثة الإنسانية الحالية.

خلفية تاريخية من الانتهاكات دون محاسبة

لم تبدأ ظاهرة الإفلات من العقاب في السودان مع الحرب الحالية، بل تمتد جذورها لعقود. شكل نزاع دارفور في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين نموذجاً مأساوياً، حيث ارتكبت ميليشيات الجنجويد، التي تشكلت منها لاحقاً قوات الدعم السريع، جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية على نطاق واسع. وعلى الرغم من صدور مذكرات توقيف من المحكمة الجنائية الدولية بحق مسؤولين كبار، بمن فيهم الرئيس السابق عمر البشير، لم يتم تسليم أي منهم للعدالة، مما خلق سابقة خطيرة مفادها أن السلطة تحمي من المساءلة.

تكرر هذا النمط بعد ثورة ديسمبر 2018، حيث تم فض اعتصام القيادة العامة في الخرطوم بالقوة في يونيو 2019، مما أسفر عن مقتل وإصابة المئات من المتظاهرين السلميين. ورغم تشكيل لجنة تحقيق، لم يتم تقديم أي من المسؤولين الكبار عن تلك المجزرة إلى العدالة، وكان من بينهم قادة يتصارعون اليوم على السلطة. هذا الفشل في تحقيق العدالة الانتقالية عزز القناعة لدى الأطراف العسكرية بأن العنف هو أداة مشروعة لتحقيق أهداف سياسية دون أي عواقب.

جرائم الحرب في الصراع الحالي

لقد أدت الحرب الدائرة منذ عام 2023 إلى ارتكاب انتهاكات واسعة النطاق للقانون الإنساني الدولي من قبل الطرفين المتحاربين، والتي ترقى في كثير من الحالات إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.

قوات الدعم السريع: تتهم تقارير دولية وحقوقية قوات الدعم السريع والميليشيات المتحالفة معها بارتكاب حملات تطهير عرقي، خاصة ضد مجتمع المساليت في غرب دارفور، لا سيما في مدينة الجنينة. كما وُثقت حالات واسعة من العنف الجنسي المنهجي واستخدامه كسلاح حرب، بالإضافة إلى عمليات النهب واسعة النطاق للممتلكات الخاصة والمؤسسات العامة، واحتلال منازل المدنيين والمستشفيات وتحويلها إلى قواعد عسكرية.
القوات المسلحة السودانية: من جانبها، تواجه القوات المسلحة اتهامات بشن غارات جوية وقصف مدفعي عشوائي على مناطق سكنية مكتظة بالسكان في الخرطوم ومدن أخرى، مما أدى إلى مقتل وجرح آلاف المدنيين. كما تتهم بعرقلة وصول المساعدات الإنسانية إلى المناطق المتضررة، واستخدام التجويع كسلاح في الحرب، وهو ما يفاقم من الأزمة الإنسانية التي وصفتها الأمم المتحدة بأنها الأكبر في العالم.

وقد شهدت مدن مثل ود مدني في ولاية الجزيرة، والفاشر في شمال دارفور، فصولاً مروعة من هذه الانتهاكات، حيث تحولت المعارك للسيطرة على الأرض إلى حرب استنزاف ضد المدنيين العالقين.

جهود متعثرة للمساءلة الدولية

أمام هذه الفظائع، يبدو المجتمع الدولي عاجزاً. على الرغم من أن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، حذر مراراً من أن الجرائم المرتكبة في دارفور تقع ضمن اختصاص المحكمة، إلا أن التحقيقات تتقدم ببطء شديد في ظل غياب التعاون من الأطراف على الأرض. كما فرضت دول غربية، بما في ذلك الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، عقوبات على أفراد وكيانات من كلا الجانبين، لكن تأثير هذه العقوبات في تغيير سلوك المتحاربين لا يزال محدوداً.

فشلت الجهود الدبلوماسية المتكررة، مثل محادثات جدة، في التوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار، حيث يتم انتهاك الهدن المعلنة بشكل متكرر. ويعكس هذا الفشل غياب الإرادة السياسية لدى الطرفين لوقف القتال، وشعورهما بأنهما يمكنهما تحقيق نصر عسكري دون الخضوع لأي ضغوط دولية حقيقية.

لماذا يعد هذا الأمر مهماً؟

إن استمرار الإفلات من العقاب في السودان ليس مجرد قضية قانونية، بل هو المحرك الأساسي لاستمرار العنف. فهو يبعث برسالة واضحة للمقاتلين وقادتهم بأن لا حدود للوحشية، وأن الجرائم لن تقابلها عواقب. وقد أدى هذا الواقع إلى تدمير النسيج الاجتماعي، وانهيار مؤسسات الدولة، وخلق أكبر أزمة نزوح في العالم، حيث نزح الملايين داخل البلاد ولجأ مئات الآلاف إلى دول الجوار الهشة أصلاً.

بدون آلية فعالة لتحقيق العدالة ومحاسبة مرتكبي الجرائم من جميع الأطراف، سيبقى أي سلام مستقبلي هشاً وغير مستدام. فالسلام الحقيقي لا يمكن أن يبنى على أنقاض العدالة، وستظل دورة العنف في السودان قصة لا تنتهي ما لم يتم كسر حلقة الإفلات من العقاب.