اتفاق غزة يضع إيران أمام ترحيب حذر ومخاوف استراتيجية

في أعقاب التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار المؤقت وتبادل الأسرى في قطاع غزة، برز الموقف الإيراني كعنصر محوري في المشهد الإقليمي المعقد. ورغم الترحيب الرسمي الذي أبدته طهران، إلا أن نظرة أعمق تكشف عن قلق استراتيجي عميق يعكس حساباتها الدقيقة في صراع متعدد الأبعاد. يعكس هذا الموقف المزدوج سعي إيران لتحقيق التوازن بين دعم حلفائها في "محور المقاومة" وتجنب الانجرار إلى مواجهة مباشرة واسعة النطاق قد تعيد تشكيل توازنات القوى في الشرق الأوسط.

الخلفية والسياق: دعم استراتيجي للمقاومة

منذ بدء العمليات العسكرية الإسرائيلية المكثفة على قطاع غزة، والتي جاءت كرد فعل على هجوم السابع من أكتوبر الذي قادته حركة حماس، أكدت إيران دعمها الكامل للفصائل الفلسطينية. يأتي هذا الدعم في إطار استراتيجية "وحدة الساحات"، التي تهدف إلى ربط مختلف جبهات "محور المقاومة"، من لبنان إلى اليمن والعراق، في مواجهة موحدة ضد إسرائيل والولايات المتحدة. وعليه، فإن أي اتفاق يتعلق بغزة لا يُنظر إليه في طهران كحدث معزول، بل كحلقة في سلسلة من التطورات التي تؤثر على مجمل المشروع الإقليمي الإيراني.

وقد عبّرت الدبلوماسية الإيرانية، خلال الأسابيع التي سبقت الاتفاق، عن موقف يدعم أي جهد يؤدي إلى وقف "العدوان" وتخفيف المعاناة الإنسانية عن سكان غزة. وفي الوقت نفسه، شددت على أن أي حل يجب أن ينبع من "إرادة المقاومة الفلسطينية" وأن يحقق أهدافها، وهو ما يفسر طبيعة الترحيب اللاحق بالاتفاق باعتباره إنجازاً فرضته صمود الفصائل على الأرض.

الموقف الرسمي: ترحيب مشروط بنكهة النصر

عقب الإعلان عن اتفاق الهدنة المؤقتة أواخر العام 2023، سارعت وزارة الخارجية الإيرانية إلى الترحيب به، معتبرة إياه دليلاً على فشل إسرائيل في تحقيق أهدافها العسكرية المعلنة بالقضاء على المقاومة. وصفت طهران الاتفاق بأنه "انتصار" للشعب الفلسطيني ونتيجة حتمية لـ "صموده الأسطوري". أكد المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، ناصر كنعاني، في تصريحات متعددة خلال تلك الفترة، أن المقاومة هي التي فرضت شروطها وأجبرت الجانب الإسرائيلي على الرضوخ لمطالبها، وهو ما يمثل نقطة تحول في مسار الصراع.

هذا الخطاب الرسمي يخدم هدفين رئيسيين: أولاً، تعزيز معنويات حلفائها في المنطقة وإظهار أن نهج "المقاومة" يؤتي ثماره. ثانياً، تأكيد دور إيران كقوة إقليمية داعمة ومؤثرة، قادرة على تحقيق مكاسب استراتيجية عبر وكلائها دون الحاجة إلى تدخل عسكري مباشر. ومع ذلك، يخفي هذا الترحيب المعلن مجموعة من الهواجس العميقة المتعلقة بمستقبل الصراع وتداعياته على الأمن القومي الإيراني.

المخاوف الاستراتيجية العميقة

على الرغم من الاحتفاء الإعلامي والسياسي، تنظر دوائر صنع القرار في طهران إلى اتفاق غزة بحذر شديد، مدفوعة بمجموعة من المخاوف الاستراتيجية التي قد تترتب على هذه الهدنة المؤقتة. يمكن تلخيص أبرز هذه المخاوف في النقاط التالية:

استغلال الهدنة لإعادة التموضع الإسرائيلي: يتمثل القلق الأبرز في أن تستغل إسرائيل فترة وقف إطلاق النار لإعادة تجميع قواتها، ومعالجة نقاط ضعفها التكتيكية، وجمع معلومات استخباراتية دقيقة حول مواقع المقاومة وقادتها، تمهيداً لشن مرحلة جديدة وأكثر شراسة من الحرب بعد انتهاء الهدنة.
تآكل استراتيجية "وحدة الساحات": يرى بعض المحللين أن حصر الاتفاق في جبهة غزة فقط قد يضعف من استراتيجية "وحدة الساحات" التي تروج لها إيران. فبينما تهدأ جبهة غزة مؤقتاً، تبقى الجبهات الأخرى، مثل جنوب لبنان، في حالة توتر، مما قد يؤدي إلى تفكيك الزخم الموحد لمحور المقاومة.
تجدد الضغط الدولي على إيران: تخشى طهران من أنه بمجرد تحقيق هدوء نسبي في غزة، سيعود التركيز الدولي، بقيادة الولايات المتحدة، لينصب مجدداً على برنامجها النووي ونفوذها الإقليمي، مع احتمالية فرض عقوبات جديدة أو تكثيف الضغوط الدبلوماسية والعسكرية عليها.
مصير حماس واليوم التالي في غزة: على المدى الطويل، يبقى القلق قائماً بشأن "اليوم التالي" للحرب في غزة. فبينما فشلت إسرائيل في القضاء على حماس عسكرياً حتى الآن، فإن استمرار الحرب قد يستنزف قدرات الحركة على المدى البعيد، مما يطرح تساؤلات حول مستقبل حكم القطاع وبقاء ذراع المقاومة المسلحة بنفس القوة والتأثير.

الأبعاد المستقبلية والتأثير الإقليمي

في المحصلة، يعكس الموقف الإيراني من اتفاق غزة حالة من الواقعية الاستراتيجية. فطهران تدرك أن الاحتفال بالنصر التكتيكي المتمثل في إجبار إسرائيل على التفاوض يجب ألا يحجب الرؤية عن التحديات الاستراتيجية الكبرى التي لا تزال قائمة. إنها تسعى إلى إدارة الصراع بشكل يضمن بقاء وتفوق حلفائها، وفي الوقت نفسه يتجنب حرباً إقليمية شاملة قد تكون تداعياتها كارثية على استقرارها الداخلي ومشروعها الإقليمي.

لذلك، بينما ترحب إيران بالهدنة كخطوة إيجابية للشعب الفلسطيني، فإنها تستعد في الوقت ذاته لجميع السيناريوهات المحتملة، بما في ذلك عودة القتال بشراسة أكبر أو تحول الصراع إلى أشكال أخرى من المواجهة غير المباشرة. يبقى مستقبل المنطقة مرهوناً بكيفية إدارة هذه المرحلة الدقيقة، حيث يتشابك الدبلوماسي بالعسكري، وتختلط الانتصارات التكتيكية بالمخاطر الاستراتيجية الكبرى.