وفاة ديك تشيني عن 84 عامًا، مع إشارة إلى تجسيد شخصيته في فيلم "Vice"

أفادت الأنباء اليوم بوفاة ديك تشيني، نائب الرئيس الأمريكي الأسبق، عن عمر يناهز الرابعة والثمانين عامًا. ويُعد تشيني شخصية سياسية ذات نفوذ كبير وتأثير عميق على السياسة الأمريكية الداخلية والخارجية، وقد حظيت مسيرته المهنية التي امتدت لعقود بتدقيق واسع النطاق، لاسيما بعد تجسيد شخصيته في فيلم "Vice" عام 2018. وتأتي وفاته لتفتح من جديد ملف إرثه السياسي المعقد والمثير للجدل.

مسيرة سياسية حافلة بالجدل والتأثير

بدأت مسيرة تشيني السياسية في أواخر الستينيات من القرن الماضي، حيث عمل متدربًا في الكونغرس الأمريكي، وسرعان ما ارتقى في المناصب ليصبح مساعدًا للعديد من الشخصيات البارزة. في عام 1975، تولى منصب رئيس أركان البيت الأبيض في عهد الرئيس جيرالد فورد، ليصبح أصغر شخص يشغل هذا المنصب في تاريخ الولايات المتحدة. وبعد فترة قضاها في الكونغرس ممثلاً لولاية وايومنغ، عاد تشيني إلى السلطة التنفيذية ليخدم كوزير للدفاع في إدارة الرئيس جورج بوش الأب خلال حرب الخليج الأولى، حيث لعب دورًا حاسمًا في تنسيق العمليات العسكرية.

بعد تركه منصبه في وزارة الدفاع، شغل تشيني منصب الرئيس التنفيذي لشركة "هاليبرتون"، وهي شركة عملاقة في مجال الخدمات النفطية، قبل أن يعود إلى المشهد السياسي الوطني كمرشح لمنصب نائب الرئيس إلى جانب جورج دبليو بوش في انتخابات عام 2000. وقد أثار اختياره دهشة الكثيرين نظرًا لخلفيته المحافظة والمتحفظة، إلا أن نفوذه وسعة اطلاعه على شؤون الحكومة سرعان ما جعلاه قوة لا يستهان بها في الإدارة الجديدة.

نائب الرئيس الأقوى في التاريخ الحديث

كانت فترة ولاية ديك تشيني كنائب للرئيس (2001-2009) هي الأكثر أهمية وتأثيرًا في تاريخ الولايات المتحدة الحديث، وربما تكون قد غيرت من طبيعة هذا المنصب إلى الأبد. فبعد هجمات 11 سبتمبر 2001، برز تشيني كمهندس رئيسي للاستراتيجية الأمريكية لمكافحة الإرهاب، داعيًا إلى توسيع صلاحيات السلطة التنفيذية بشكل كبير في قضايا الأمن القومي. وقد كان له دور محوري في تبرير غزو العراق عام 2003، بناءً على معلومات استخباراتية حول أسلحة الدمار الشامل، والتي ثبت لاحقًا أنها غير دقيقة.

ساهم تشيني بقوة في صياغة سياسات مثل برنامج المراقبة بدون أوامر قضائية، واستخدام تقنيات الاستجواب المعززة (ما يُعرف بالتعذيب) بحق المشتبه بهم في الإرهاب.
كان من أبرز المدافعين عن نظرية "الرئاسة الموحدة" (Unitary Executive Theory)، التي تؤكد أن الرئيس يمتلك صلاحيات واسعة وغير قابلة للتقييد في قضايا الأمن القومي والسياسة الخارجية.
اشتهر بأسلوبه المتحفظ في العمل خلف الكواليس، وهو ما أكسبه لقب "نائب الرئيس الخفي" أو "الرجل الذي يحرك الخيوط".

لقد أعاد تشيني تعريف دور نائب الرئيس من خلال ممارسته لنفوذ غير مسبوق في جميع جوانب صنع القرار، من السياسة الخارجية والدفاع إلى السياسات الاقتصادية والداخلية.

فيلم "Vice": نظرة سينمائية على شخصية محورية

في عام 2018، أعاد المخرج آدم مكاي شخصية ديك تشيني إلى الواجهة العامة من خلال فيلمه الكوميدي الدرامي "Vice"، والذي قام ببطولته الممثل كريستيان بيل في دور تشيني. قدم الفيلم نظرة نقدية على مسيرة تشيني المهنية، متتبعًا صعوده من مساعد صغير إلى واحد من أقوى الشخصيات السياسية في التاريخ الأمريكي. ركز الفيلم على طموحه، براعته التكتيكية، وقدرته على استغلال الثغرات الدستورية لتعزيز سلطة المكتب البيضاوي.

حظي الفيلم بنقاش واسع النطاق وأعاد إشعال الجدل حول إرث تشيني، حيث أشاد البعض بالفيلم لكونه يسلط الضوء على جانب غالبًا ما يتم تجاهله من التاريخ السياسي الأمريكي، بينما انتقده آخرون لكونه متحيزًا ويقدم صورة غير دقيقة للأحداث. وبغض النظر عن الجدل، فقد أثر الفيلم بلا شك في كيفية إدراك جزء كبير من الجمهور العام لشخصية ديك تشيني وأدواره المحورية.

تراث تشيني: إرث معقد ومثير للجدل

يمثل إرث ديك تشيني نقطة خلاف دائمة في النقاشات السياسية الأمريكية. فمن جهة، يرى مؤيدوه أنه كان رجل دولة حازمًا وواقعيًا، قام بحماية الولايات المتحدة في أوقات عصيبة، ودافع عن المصالح الوطنية بقوة لا تلين. ويشيدون بذكائه التكتيكي وخبرته الواسعة التي استخدمها لتعزيز الأمن القومي.

ومن جهة أخرى، يرى منتقدوه أنه كان شخصية مظلمة، تسبب في تقويض الضوابط والتوازنات الدستورية، وساهم في إشعال حروب مكلفة وفتاكة، وتجاهل حقوق الإنسان باسم الأمن. ويلقون عليه باللوم في تراجع سمعة الولايات المتحدة الدولية وتصاعد الاستقطاب السياسي الداخلي.

طوال حياته، عانى تشيني من مشاكل صحية قلبية عديدة، خضع خلالها لعمليات جراحية متعددة وزرع جهاز تنظيم ضربات القلب. ورغم هذه التحديات، استمر في المشاركة في النقاشات السياسية العامة، مقدمًا آرائه حول قضايا الأمن القومي والسياسة الخارجية.

تُعد وفاة ديك تشيني حدثًا يختتم فصلاً مهمًا في التاريخ السياسي الأمريكي. وبغض النظر عن المواقف المتباينة تجاهه، لا يمكن إنكار أن تأثيره كان هائلاً وسيبقى موضوعًا للدراسة والتحليل لعقود قادمة.