مبادرة «أتوبيس الفن الجميل» تُثري تجربة الأطفال الثقافية بجولة تعليمية في متحف جاير أندرسون

في خطوة تعكس الاهتمام العميق بتنشئة جيل واعٍ ومتصل بتراثه الفني والثقافي العريق، انطلقت مبادرة «أتوبيس الفن الجميل» مؤخرًا في جولة تعليمية مميزة. اصطحب الأتوبيس مجموعة من الأطفال في رحلة استكشافية داخل أروقة متحف جاير أندرسون التاريخي بقلب القاهرة، بهدف تعريف الصغار بجماليات الفن الإسلامي وكنوز التراث المصري الأصيل، وغرس بذور حب التاريخ والمتاحف في نفوسهم الغضة. تأتي هذه المبادرة ضمن سلسلة جهود وطنية تهدف إلى جعل الثقافة والفن في متناول الجميع، وخاصة الأجيال الجديدة.

خلفية المبادرة وأهدافها

تُعد مبادرة «أتوبيس الفن الجميل» جزءًا لا يتجزأ من الاستراتيجيات الثقافية الرامية إلى نشر الوعي الفني والمعرفي بين مختلف شرائح المجتمع، مع تركيز خاص على فئة الأطفال والنشء. تُنظم المبادرة، التي غالبًا ما تتم بالتعاون بين جهات ثقافية ورسمية، بهدف كسر الحواجز التقليدية التي قد تفصل الجمهور عن المؤسسات الثقافية الكبرى مثل المتاحف، المسارح، والمعارض الفنية. تقدم هذه الجولات المحتوى الثقافي والفني بطرق مبتكرة وجذابة، مصممة لتناسب الفضول الطبيعي للأطفال وقدرتهم على التفاعل.

تعتمد الفكرة الأساسية للمبادرة على توفير وسيلة نقل مريحة وآمنة للأطفال من مختلف المناطق، لا سيما تلك التي قد لا يتوفر فيها الوصول بسهولة إلى المراكز الثقافية الهامة. يتم اصطحابهم في رحلات منظمة لزيارة المواقع الأثرية، المتاحف، والمعارض الفنية. تسعى هذه الجولات إلى تحويل تجربة التعلم من مجرد تلقين إلى تفاعل مباشر وممتع، مما يُسهم بشكل فعال في بناء شخصية الطفل وتنمية مداركه الفنية والإبداعية. في سياق أوسع، تندرج هذه المبادرات ضمن رؤية أشمل لتعزيز الهوية الثقافية والحفاظ على التراث الوطني، من خلال إشراك الأجيال الجديدة في عملية استكشاف هذا الإرث الحضاري والافتخار به، ليكونوا حراسًا له في المستقبل.

متحف جاير أندرسون: أيقونة معمارية وتراثية

لم يكن اختيار متحف جاير أندرسون لاستضافة هذه الجولة محض صدفة، بل جاء لكونه تحفة معمارية وتراثية فريدة من نوعها، مما يجعله بيئة مثالية للتعلم والاستكشاف العميق. يقع المتحف في قلب القاهرة التاريخية، وبالتحديد بجوار مسجد أحمد بن طولون الأثري الشهير. يتكون المتحف من بيتين أثريين عتيقين يعودان للقرن السابع عشر الميلادي، وهما بيت الكريتلية وبيت آمنة بنت سالم، واللذان يربطهما ممر واحد يشكلان معًا نسيجًا معماريًا متكاملًا.

سُمي المتحف على اسم الميجور جون جاير أندرسون، وهو طبيب ضابط إنجليزي عاش في مصر خلال أوائل القرن العشرين. قام جاير أندرسون بترميم البيتين وجمع فيهما مجموعة هائلة من التحف والقطع الفنية النادرة من مختلف أنحاء العالم الإسلامي والشرق، ثم أهداها للدولة المصرية عام 1945. يعرض المتحف اليوم مجموعة غنية ومتنوعة من المقتنيات التي تعكس الفنون والحرف الإسلامية الأصيلة، تتراوح بين المشغولات الخشبية والمعدنية والزجاجية، والسجاد، والملابس التقليدية، والأثاث العتيق. كما يضم المتحف غرفًا صُممت بعناية لتجسد أنماط حياة وعادات مختلفة تعبر عن روح العصور الماضية.

تُتيح الطبيعة السكنية للمتحف، بتفاصيلها المعمارية الساحرة وفنائها الداخلي الهادئ، تجربة غامرة للأطفال تُشعرهم وكأنهم ينتقلون عبر الزمن إلى عوالم قديمة، مما يُعزز من قدرتهم على التخيل وربط المعروضات بالسياق التاريخي الذي وُجدت فيه. هذا الجو الفريد يساعد على تحويل الزيارة إلى مغامرة تعليمية لا تُنسى، بعيدًا عن نمط العرض المتحفي التقليدي.

تفاصيل الجولة التعليمية

تضمنت الجولة، التي أقيمت في العشرين من أكتوبر الجاري، برنامجًا تثقيفيًا متكاملًا صُمم خصيصًا ليتناسب مع الفئة العمرية للأطفال المشاركين. قاد مرشدون متخصصون وذوو خبرة في التعامل مع الأطفال الصغار، المجموعة عبر قاعات المتحف المختلفة، مقدمين شروحات مبسطة وواضحة، بالإضافة إلى تنظيم مناقشات تفاعلية حول القطع الأثرية المتنوعة والمعمار الإسلامي الفريد الذي يميز البيتين التاريخيين. لم تقتصر الشروحات على مجرد الوصف، بل ركز المرشدون على إبراز القصص الكامنة وراء التحف، وشرحوا أهمية كل قطعة، ودورها في الحياة اليومية لسكان القاهرة القديمة.

لقد تم تشجيع الأطفال بشكل فعال على طرح الأسئلة والتفاعل مع البيئة المحيطة بهم، وذلك بهدف تحفيز فضولهم الطبيعي وتنمية مهارات الملاحظة لديهم. ربما تضمنت الجولة أيضًا ورش عمل بسيطة أو أنشطة رسم مستوحاة مباشرة من المقتنيات الفنية المعروضة، مما ساعد على تثبيت المعلومات بصورة إبداعية وممتعة، وحوّل التعلم إلى تجربة حسية وبصرية. كان الهدف الأساسي هو تجاوز فكرة المتحف كمجرد مكان لعرض الأشياء القديمة، إلى جعله مساحة حية للتفاعل والتعلم والترفيه الثقافي. وقد لوحظ التفاعل الإيجابي والأخاذ للأطفال وحماسهم الكبير في استكشاف زوايا المتحف المتنوعة، مما يؤكد نجاح المبادرة في تحقيق أهدافها الأولية المتمثلة في إثراء التجربة الثقافية للصغار.

الأهمية والأثر المستقبلي

تكتسب مثل هذه المبادرات، التي تجمع بين التعليم والترفيه الثقافي، أهمية قصوى في بناء الوعي الثقافي والحضاري لدى الأجيال الجديدة. من خلال تعريض الأطفال في سن مبكرة للفن والتاريخ، تُسهم هذه الجولات بشكل فعال في تطوير ذائقتهم الفنية، وتعزيز انتمائهم الحضاري لوطنهم، وتنمية قدراتهم على التفكير النقدي والإبداعي. كما أنها تزرع فيهم بذور الاحترام للتراث والحرص على صونه والمحافظة عليه للأجيال القادمة، مما يضمن استمرارية الذاكرة الجمعية للأمة.

علاوة على ذلك، تُسهم جولات «أتوبيس الفن الجميل» في إضفاء حيوية على دور المتاحف والمؤسسات الثقافية بشكل عام، وتحويلها من أماكن عرض صامتة إلى مراكز مجتمعية نشطة تتجاوز وظيفتها التقليدية. فهي تُظهر قدرة الفن والثقافة على أن تكون جسرًا قويًا يربط بين الماضي العريق والحاضر النابض بالمستقبل الواعد، وأن تكون وسيلة فعالة للتعليم الهادف والترفيه الثقافي البناء. يتطلع المنظمون إلى توسيع نطاق هذه المبادرات لتشمل المزيد من المتاحف والمواقع الأثرية في مختلف أنحاء البلاد، لضمان وصول الفائدة إلى أكبر عدد ممكن من الأطفال، وليصبح التعليم الثقافي جزءًا لا يتجزأ من المناهج التعليمية غير الرسمية، مما يُسهم في بناء مجتمع أكثر وعيًا وإبداعًا وقدرة على فهم وتقدير إرثه الثمين.