اتفاقيات الغاز بين مصر وإسرائيل: مصالح استراتيجية تتجاوز الخلافات السياسية

على الرغم من التوترات السياسية المتقلبة التي تشوب العلاقات بين مصر وإسرائيل، خاصة في ظل الأحداث الأخيرة في المنطقة، تبرز اتفاقيات الغاز الطبيعي كركيزة أساسية للتعاون البراغماتي بين البلدين. هذه الشراكة، التي تطورت على مدى السنوات الماضية، لا تحقق مكاسب اقتصادية متبادلة فحسب، بل تحمل في طياتها أبعاداً جيوسياسية عميقة تعزز من مكانة الدولتين على الساحة الإقليمية والدولية، وتخدم مصالح أطراف دولية أخرى، وعلى رأسها الاتحاد الأوروبي.

خلفية تاريخية وأسس التعاون

شهدت علاقات الطاقة بين مصر وإسرائيل تحولاً تاريخياً. فبعد أن كانت مصر مصدراً للغاز إلى إسرائيل، انعكس هذا الاتجاه مع اكتشاف حقول غاز إسرائيلية ضخمة في البحر المتوسط، مثل حقلي تمار وليفياثان. وجاءت نقطة التحول الرئيسية في عام 2018، مع توقيع اتفاقية تاريخية بقيمة تتجاوز 15 مليار دولار بين شركة دولفينوس القابضة المصرية وشركاء الحقول الإسرائيلية. نص الاتفاق على استيراد مصر للغاز الإسرائيلي بهدف إسالته في محطتي الإسالة المصريتين في إدكو ودمياط، ومن ثم إعادة تصديره إلى الأسواق العالمية، وبشكل خاص إلى أوروبا، على شكل غاز طبيعي مسال (LNG).

هذا التعاون لم يكن وليد اللحظة، بل جاء تتويجاً لرؤية استراتيجية تهدف إلى تحويل مصر إلى مركز إقليمي للطاقة. تمتلك مصر البنية التحتية اللازمة المتمثلة في محطات الإسالة التي كانت تعمل بأقل من طاقتها الإنتاجية، بينما كانت إسرائيل تبحث عن أسواق مستقرة لتصريف إنتاجها الضخم من الغاز. وقد أدى هذا التكامل إلى تأسيس منتدى غاز شرق المتوسط (EMGF) في عام 2019، والذي يتخذ من القاهرة مقراً له، ليكون منصة لتعزيز التعاون بين دول المنطقة في مجال الغاز.

الأهمية الاستراتيجية للطرفين وأوروبا

تتجاوز أهمية هذه الاتفاقيات الجانب التجاري البحت، إذ تمنح كلا البلدين مزايا استراتيجية كبرى. بالنسبة لمصر، ساهمت هذه الشراكة في:

تعظيم الاستفادة من بنيتها التحتية المتطورة وإعادة تشغيل محطات الإسالة بكامل طاقتها، مما يدر عوائد مالية كبيرة.
ترسيخ مكانتها كلاعب محوري في سوق الطاقة الإقليمي، وجسر حيوي لنقل الغاز من شرق المتوسط إلى أوروبا.
تلبية جزء من الطلب المحلي على الغاز في أوقات الذروة، مع توجيه الجزء الأكبر من الغاز المستورد لإعادة التصدير.

أما بالنسبة لإسرائيل، فقد وفرت الاتفاقيات منفذاً آمناً وموثوقاً لتصدير ثرواتها من الغاز، مما يضمن تدفقات نقدية مستدامة ويعزز اقتصادها. كما أن هذا التعاون الاقتصادي العميق يمثل ورقة جيوسياسية مهمة، حيث يربط مصالحها بمصالح قوة إقليمية كبرى مثل مصر، ويقوي علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي الذي يسعى جاهداً لتنويع مصادره من الطاقة.

وقد ازدادت هذه الأهمية بشكل ملحوظ بعد الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير 2022، حيث سارعت أوروبا للبحث عن بدائل للغاز الروسي. وفي هذا السياق، تم توقيع مذكرة تفاهم ثلاثية بين مصر وإسرائيل والاتحاد الأوروبي في يونيو 2022 لزيادة إمدادات الغاز إلى القارة الأوروبية عبر البنية التحتية المصرية، مما وضع هذا التعاون في قلب استراتيجية أمن الطاقة الأوروبية.

تأثير التوترات الجيوسياسية الأخيرة

شكلت الحرب في قطاع غزة، التي اندلعت في أكتوبر 2023، اختباراً حقيقياً لمتانة هذه الشراكة. فمع بدء العمليات العسكرية، قررت السلطات الإسرائيلية إغلاق حقل غاز تمار مؤقتاً لدواعٍ أمنية، مما أدى إلى توقف تدفقات الغاز إلى مصر لفترة وجيزة. أثار هذا التوقف مخاوف بشأن استمرارية الإمدادات، لكن سرعان ما تم استئناف الضخ عبر مسارات بديلة ومن حقل ليفياثان الأبعد عن مناطق النزاع.

على الرغم من الخطاب السياسي المصري الذي انتقد بشدة العمليات العسكرية الإسرائيلية، والمواقف المتباينة على المستوى الدبلوماسي، إلا أن التعاون في مجال الطاقة ظل بمنأى عن التداعيات المباشرة. ويُظهر هذا الواقع أن المصالح الاستراتيجية والاقتصادية المشتركة أصبحت متشابكة إلى درجة يصعب معها التراجع عنها، حيث يدرك الطرفان أن استمرار هذا التعاون يخدم أهدافهما طويلة الأمد بشكل يفوق أي خلافات سياسية آنية.

المستقبل والتحديات المحتملة

يتطلع البلدان إلى توسيع نطاق تعاونهما في المستقبل، مع وجود خطط لزيادة كميات الغاز المصدرة إلى مصر لتلبية الطلب الأوروبي المتزايد. ومع ذلك، يواجه هذا الطموح بعض التحديات، منها المخاطر الأمنية التي تهدد البنية التحتية في منطقة مضطربة، وتقلبات أسعار الغاز في الأسواق العالمية، بالإضافة إلى الضغوط السياسية الداخلية المحتملة في مصر. على الرغم من هذه العقبات، يبدو أن الشراكة في مجال الغاز بين مصر وإسرائيل قد أثبتت مرونتها وقدرتها على الصمود، لتبقى نموذجاً للبراغماتية السياسية حيث تتغلب المصالح المشتركة على الخلافات الأيديولوجية والتاريخية.