اكتشاف الحمض النووي: هل تجاهل واتسون وكريك مساهمة فرانكلين الأساسية؟
لطالما كانت قصة اكتشاف بنية الحمض النووي (DNA) إحدى الروايات المحورية في تاريخ العلوم، ليس فقط لأهمية هذا الجزيء في فهم الحياة، بل أيضاً لما تكتنفها من جدل أخلاقي وتساؤلات حول الأسبقية والاعتراف العلمي. فبينما يُنسب الفضل في الكشف عن تركيب اللولب المزدوج إلى جيمس واتسون وفرنسيس كريك، تظل مساهمة العالمة البريطانية روزاليند فرانكلين محط نقاش مستمر، مما يثير تساؤلات حول مدى إنصاف التاريخ العلمي لجهودها الجبارة.

اللحظة التاريخية: اكتشاف اللولب المزدوج
في عام 1953، اهتزت الأوساط العلمية بنشر ورقتين بحثيتين متتاليتين في مجلة "نيتشر" العلمية المرموقة. الأولى كانت لواتسون وكريك، ووصفت نموذجاً أنيقاً ومبهراً لبنية الحمض النووي على شكل لولب مزدوج، وهو ما غير مجرى البيولوجيا الحديثة. والثانية، التي نشرها موريس ويلكنز وزملاؤه، قدمت بيانات تدعم هذا النموذج. هذا الاكتشاف قدم الأساس لفهم كيفية تخزين المعلومات الوراثية وتمريرها من جيل إلى جيل، مما فتح الباب أمام ثورات علمية في الطب والوراثة والتقنيات الحيوية.
لاحقاً، في عام 1962، كُرّم واتسون وكريك وويلكنز بجائزة نوبل في الفسيولوجيا أو الطب تقديراً لإنجازهم. ومع ذلك، لم يكن اسم روزاليند فرانكلين ضمن المكرمين، مما أثار وما زال يثير تساؤلات حول عدالة التقدير في هذا الإنجاز العلمي الضخم. توفيت فرانكلين قبل أربع سنوات من منح الجائزة، وتحديداً في عام 1958، عن عمر يناهز 37 عاماً بسبب سرطان المبيض، وهو ما يعني أنها لم تكن مؤهلة للجائزة وفقاً لقواعد نوبل التي لا تمنح بعد الوفاة.
المساهمة المحورية لروزاليند فرانكلين
كانت روزاليند فرانكلين عالمة بلورات أشعة سينية بارعة، وعملت في مختبر جون راندال في كلية كينغز بلندن. كان عملها يتمحور حول استخدام تقنية حيود الأشعة السينية لدراسة بنية الجزيئات الحيوية، بما في ذلك الحمض النووي. كانت تتمتع بدقة متناهية ومنهجية صارمة في عملها، مما مكنها من إنتاج أفضل صور حيود الأشعة السينية للحمض النووي في ذلك الوقت. ومن أبرز إنجازاتها كانت "الصورة 51"، التي التقطتها في عام 1952، والتي أصبحت دليلاً بصرياً لا يقبل الجدل على الطبيعة الحلزونية لجزيء الحمض النووي، وقدمت معلومات أساسية حول أبعاده وتكرار وحداته البنائية.
لم يقتصر عمل فرانكلين على التقاط الصور؛ بل قامت أيضاً بتحليل البيانات بدقة وتفسير النتائج، وقدمت تقريراً مفصلاً يتضمن قياساتها وتحليلاتها لمؤتمر أُقيم عام 1952، حضره بعض العلماء بمن فيهم موريس ويلكنز. كانت هذه البيانات، التي تشير بوضوح إلى اللولب المزدوج، حاسمة للغاية.
الجدل الأخلاقي: كيف وصلت بيانات فرانكلين إلى واتسون وكريك؟
يكمن جوهر الجدل في الكيفية التي وصل بها عمل فرانكلين إلى واتسون وكريك. تشير المصادر التاريخية إلى عدة نقاط رئيسية:
- الصورة 51: عرض موريس ويلكنز، الذي كان زميلاً لفرانكلين ولكنه كان يواجه صعوبات في التواصل معها، "الصورة 51" على جيمس واتسون في عام 1953 دون علم فرانكلين أو موافقتها الصريحة. كان واتسون قد زار كينغز كوليدج واطلع على الصورة التي كانت حاسمة في توجيه تفكيره.
- تقرير مجلس البحوث الطبية (MRC): قدم فرانكلين تقريراً فنياً لمجلس البحوث الطبية في ديسمبر 1952، والذي تضمن تفاصيل دقيقة عن قياساتها واستنتاجاتها حول بنية الحمض النووي. وكان كريك، الذي كان يعمل في نفس الوحدة البحثية تحت إشراف ماكس بيروتز (عضو في لجنة المجلس)، قد اطلع على هذا التقرير، الذي كان مخصصاً لأغراض مراجعة داخلية وليس للنشر أو المشاركة الواسعة. اعترف بيروتز لاحقاً بأن هذا التقرير كان ينبغي ألا يشارك بتلك الطريقة.
كانت هذه المعلومات، التي جمعتها فرانكلين بجهد كبير وصرامة علمية، حيوية لواتسون وكريك في بناء نموذجهما الصحيح للولب المزدوج. فقبل هذه اللحظة، كانت محاولاتهما تعتمد على التخمين والتجربة، وقد أنتجت بعض النماذج الخاطئة. وقد أقر جيمس واتسون نفسه في كتابه الشهير "اللولب المزدوج" (The Double Helix)، الذي نشر في عام 1968، بأهمية هذه الصور، وإن كان وصفه لفرانكلين في الكتاب قد أثار انتقادات واسعة بسبب نبرته الذكورية والتقليل من شأنها.
تأثير الجدل وتصحيح التاريخ العلمي
تُعد قصة روزاليند فرانكلين مثالاً بارزاً على "تأثير ماتيلدا" (Matilda Effect)، وهي ظاهرة تُشير إلى الميل إلى إنكار أو التقليل من مساهمات النساء العالمات، بينما تُنسب إنجازاتهن غالباً لزملائهن الذكور. على مدى العقود الماضية، بذلت جهود كبيرة لتصحيح هذه الرواية التاريخية، حيث أصبحت مساهمات فرانكلين تُدرَّس الآن في المناهج الدراسية وتُسلط عليها الأضواء في العديد من المنشورات والمؤتمرات العلمية.
تؤكد هذه القضية على عدة دروس مهمة:
- أخلاقيات البحث: تسلط الضوء على الأهمية القصوى للنزاهة العلمية، والاعتراف الواضح بالمصادر، وطلب الإذن عند استخدام بيانات الآخرين.
- التحديات التي تواجه العالمات: تكشف القصة عن التحديات الكبيرة التي واجهتها النساء في مجالات العلوم في منتصف القرن العشرين، بما في ذلك التمييز وعدم المساواة في الاعتراف.
- تأثير الروايات التاريخية: تظهر كيف يمكن للروايات التاريخية أن تُشكل التصور العام للإنجازات، والحاجة المستمرة لإعادة التقييم والنقد لضمان الإنصاف.
في العصر الحديث، تُذكر روزاليند فرانكلين ليس فقط لكونها عالمة لامعة كان عملها أساسياً في اكتشاف بنية الحمض النووي، بل أيضاً كرمز للنضال من أجل الاعتراف بالمرأة في العلوم. أصبحت قصتها حافزاً للمناقشات حول كيفية تقدير الإنجازات العلمية بشكل أكثر شمولية وإنصافاً، مما يضمن ألا تضيع جهود أحد في خضم السباق نحو الاكتشاف.
تظل هذه القضية حية، وتستمر في إثارة اهتمام الأوساط الأكاديمية والجمهور على حد سواء، كجزء من عملية مستمرة لتصحيح المسار التاريخي والاعتراف المستحق بالرواد والرواديات الذين شكلوا فهمنا للعالم.




