وفاة جيمس واتسون، مكتشف بنية الحمض النووي الحائز على نوبل، عن 97 عاماً
أعلن مؤخراً عن وفاة العالم الأمريكي البارز جيمس واتسون، الحائز على جائزة نوبل ومكتشف أحد أبرز الأسرار البيولوجية في القرن العشرين، عن عمر يناهز 97 عاماً. فقد رحل واتسون في 25 يناير 2024، تاركاً وراءه إرثاً علمياً هائلاً غيّر مسار البيولوجيا الجزيئية والطب، إلى جانب جدل كبير حول آرائه المثيرة للشقاق في سنواته الأخيرة. تمثل وفاته نهاية حقبة لأحد الشخصيات المحورية التي كشفت عن شفرة الحياة نفسها، مما ترك بصمة لا تُمحى على فهمنا للوراثة والمرض.

مسيرة علمية غيرت وجه البيولوجيا
وُلد جيمس ديوي واتسون في شيكاغو عام 1928، وأظهر نبوغاً مبكراً في العلوم، حيث تخرج من جامعة شيكاغو في سن مبكرة. حصل على درجة الدكتوراه في علم الحيوان من جامعة إنديانا عام 1950. كانت نقطة التحول في مسيرته العلمية عندما التقى فرانسيس كريك في مختبر كافنديش بجامعة كامبريدج بإنجلترا في أوائل الخمسينيات. جمعتهما رؤية مشتركة وهدف واحد: فك رموز بنية الحمض النووي (DNA)، الجزيء الذي يحمل المعلومات الوراثية لجميع الكائنات الحية.
في عام 1953، وبعد جهود مكثفة وبناء على بيانات حيود الأشعة السينية التي قدمتها بشكل حاسم روزاليند فرانكلين وزميلها موريس ويلكنز، تمكن واتسون وكريك من اقتراح نموذج اللولب المزدوج للحمض النووي. كان هذا الاكتشاف ثورياً، حيث قدم تفسيراً أنيقاً لكيفية تخزين المعلومات الوراثية وتضاعفها، مما فتح آفاقاً جديدة تماماً في علم الوراثة والبيولوجيا الجزيئية. كانت بنية اللولب المزدوج، التي وصفها كريك بأنها "سر الحياة"، حجر الزاوية الذي بنيت عليه جميع التطورات اللاحقة في هذا المجال، من الهندسة الوراثية إلى تسلسل الجينوم البشري.
تقديراً لإنجازهم الرائد، حصل جيمس واتسون وفرانسيس كريك وموريس ويلكنز على جائزة نوبل في الفسيولوجيا أو الطب عام 1962. أصبح هذا الاكتشاف أساساً لفهم الأمراض الوراثية، وتطوير العلاجات الجينية، وتصميم الأدوية، والتقنيات الحيوية الحديثة. لقد حول اكتشافهم الحمض النووي من مجرد جزيء إلى دليل شامل للحياة، وهو ما يفسر لماذا يعتبر من أهم الاكتشافات العلمية في التاريخ.
الجانب المظلم: الجدل والتصريحات العنصرية
بعد نجاحه في كامبريدج، عاد واتسون إلى الولايات المتحدة وشغل مناصب أكاديمية وبحثية مرموقة، أبرزها رئاسة مختبر كولد سبرينج هاربور (CSHL) لأكثر من 35 عاماً، من عام 1968 إلى 1994، ثم أصبح مستشاراً ورئيساً فخرياً. تحت قيادته، تحول المختبر إلى مركز عالمي رائد في أبحاث السرطان والوراثة والبيولوجيا الجزيئية. كما لعب دوراً أساسياً في إطلاق مشروع الجينوم البشري، الذي يهدف إلى رسم الخريطة الكاملة للجينات البشرية.
على الرغم من إنجازاته العلمية المتواصلة، تلطخت سمعة واتسون بسلسلة من التصريحات العنصرية والمثيرة للجدل التي أطلقها في سنواته المتأخرة. في عام 2007، صرح علناً اعتقاده بأن الأفارقة أقل ذكاءً من البيض، مما أثار موجة غضب عارمة وأدى إلى إقالته من منصب مستشار في CSHL. وقد اضطر إلى بيع ميدالية نوبل الخاصة به في مزاد عام 2014، معبراً عن شعوره بأنه منبوذ من المجتمع العلمي. ورغم محاولاته للاعتذار في بعض الأحيان، فقد كرر تصريحاته العنصرية في فيلم وثائقي عام 2019، مما دفع CSHL إلى سحب جميع الألقاب الفخرية منه، مؤكدين أن تصريحاته "لا أساس لها من الصحة ومهملة ومُدانة".
هذه التصريحات لم تقتصر على العرق فحسب، بل شملت أيضاً آراءً مثيرة للجدل حول قضايا مثل العلاقة بين الجينات والمثلية الجنسية، ومناقشاته حول الهندسة الوراثية وتحسين النسل (eugenics)، والتي أثارت مخاوف أخلاقية عميقة. أدت هذه المواقف إلى نبذه بشكل فعال من جزء كبير من المجتمع العلمي، الذي وجد صعوبة في التوفيق بين عبقريته العلمية وآرائه الاجتماعية التي اعتبرت رجعية وغير علمية.
الإرث العلمي والتحديات الأخلاقية
يبقى إرث جيمس واتسون معقداً ومتعدد الأوجه. فمن ناحية، لا يمكن لأحد أن ينكر الدور المحوري لاكتشافه لبنية الحمض النووي في الثورة البيولوجية التي شهدها العالم منذ منتصف القرن العشرين. هذا الاكتشاف لم يفتح الباب أمام فهم أعمق للعمليات الحيوية فحسب، بل مهد الطريق لابتكارات طبية وتقنية لا حصر لها، مثل تقنيات التعديل الجيني كـ CRISPR، والتي تحمل وعداً كبيراً في علاج الأمراض الوراثية.
من ناحية أخرى، تثير تصرفاته وتصريحاته في سنواته الأخيرة تساؤلات جوهرية حول العلاقة بين الإنجاز العلمي والأخلاق الشخصية، ومسؤولية العلماء تجاه المجتمع. يُعتبر واتسون مثالاً صارخاً على التحدي المتمثل في فصل العمل العلمي عن شخصية العالم، وعلى كيفية تأثير التحيزات الشخصية على سمعة وإرث حتى أعظم العقول. وفاته تذكرنا بأن التقدم العلمي، مهما كان عظيماً، يجب أن يترافق دائماً مع الالتزام بالقيم الإنسانية الأساسية والمسؤولية الأخلاقية.
في الختام، يمثل رحيل جيمس واتسون لحظة للتفكير في المسار المذهل لعلم الأحياء في العصر الحديث، والدور المحوري الذي لعبه في تشكيله، وفي الوقت نفسه، دعوة للتأمل في التعقيدات الأخلاقية والاجتماعية التي يمكن أن تنشأ حتى من داخل قمم الإنجاز البشري.





