اكتشاف نقوش صخرية تاريخية بعمر 12 ألف عام في شمال السعودية يثير ذهول علماء الآثار
شهد شمال المملكة العربية السعودية اكتشافاً أثرياً مذهلاً يَعِد بإعادة تشكيل فهمنا للتاريخ البشري في المنطقة. ففي موقع جبل ميسما، تم الكشف عن لوحة فنية صخرية ضخمة تضم نقوشاً يعود تاريخها إلى حوالي 12 ألف عام، مما وضع علماء الآثار في حالة من الذهول والترقب. وقد بدأت التفاصيل الأولية لهذا الاكتشاف، التي تُنسب إلى فريق بحثي بقيادة غواغنين وآخرين ومن المتوقع أن تُنشر بالكامل في مجلة Nature Communications في عام 2025، في لفت انتباه الأوساط العلمية، كما أشارت إليها تقارير مبدئية، منها ما ورد عبر صحيفة نيويورك تايمز.

سياق الاكتشاف وأهميته التاريخية
يقع هذا الاكتشاف ضمن فترة حاسمة في التاريخ الجيولوجي والمناخي لشبه الجزيرة العربية، المعروفة بفترة العصر الحجري المتأخر وأوائل الهولوسين. فخلافاً لما هي عليه اليوم، كانت المنطقة قبل حوالي 12 ألف عام تتمتع ببيئة أكثر رطوبة واخضراراً، وهي ما يطلق عليها الباحثون ظاهرة "الجزيرة العربية الخضراء". هذه الفترات البلايستوسينية البينية المطيرة كانت سبباً في تشكل شبكات أنهار وبحيرات ومراعٍ واسعة، مما جعلها موطناً خصباً للحياة البرية ومساراً حيوياً للهجرات البشرية.
كانت هذه البيئة الخصبة تدعم مجموعة متنوعة من الحيوانات الضخمة التي لم تعد موجودة في المنطقة، مثل الأبقار البرية الكبيرة (الأرخص)، والغزلان، وربما أنواع من الجمال القديمة والفيلة. وفي خضم هذا المشهد الطبيعي الثري، ازدهرت المجتمعات البشرية من الصيادين والجامعين، تاركةً وراءها آثاراً تدل على وجودها وتفاعلها مع بيئتها. تأتي هذه النقوش الصخرية كدليل مباشر وملموس على هذه الحياة القديمة، مقدمة نافذة فريدة على عالم ما قبل التاريخ في قلب الجزيرة العربية.
تفاصيل النقوش وموقعها
تتمثل النقوش المكتشفة في جبل ميسما بلوحة فنية صخرية ضخمة تروي قصصاً من حياة الإنسان القديم وحيواناته. ومن المتوقع أن تصور هذه النقوش مشاهد من الصيد، أو حيوانات مفصلة بدقة، أو حتى شخصيات بشرية تمارس طقوساً أو أنشطة يومية. تعكس الدقة الفنية والتعبيرية لهذه الأعمال مستوى عالياً من الإدراك والمهارة لدى صانعيها، مما يؤكد على الثراء الثقافي للمجتمعات التي سكنت المنطقة في تلك الحقبة.
لتحديد عمر هذه النقوش التي تعود إلى 12 ألف عام بدقة، يعتمد علماء الآثار على مجموعة من الأساليب العلمية. تشمل هذه الأساليب عادةً التأريخ بالكربون المشع للمواد العضوية المرتبطة بالموقع (مثل بقايا الفحم أو التربة)، أو تحليل الرواسب الأثرية الطبقية، أو حتى المقارنات الأسلوبية مع مواقع أخرى مؤرخة بشكل موثوق في المنطقة والعالم. هذه المنهجيات الدقيقة تضمن أن التقدير الزمني للوحات الصخرية يستند إلى أدلة علمية قوية.
الأبعاد العلمية والثقافية
يحمل هذا الاكتشاف آثاراً عميقة على فهمنا للأنماط المعيشية والتطورات الثقافية في شبه الجزيرة العربية. فهو لا يوسع نطاق الدلائل على الوجود البشري المبكر فحسب، بل يوفر أيضاً رؤى قيمة حول كيفية تكيف البشر مع البيئات المتغيرة، وتطور تقنيات الصيد، وحتى بداية الرمزية والتعبير الفني. تساهم هذه النقوش في ربط نقاط متعددة في خريطة الهجرات البشرية القديمة وتفاعلاتها الثقافية عبر القارات.
علاوة على ذلك، تعزز هذه اللوحات الصخرية مكانة المملكة العربية السعودية كمركز حيوي للبحث الأثري العالمي. فقد ظلت العديد من مناطقها الشاسعة غير مستكشفة بشكل كامل، وتكشف كل اكتشاف جديد عن فصول مجهولة من تاريخ البشرية. إنه يؤكد أن المملكة ليست فقط مهد الحضارات الإسلامية، بل أيضاً حاضنة لتراث إنساني أعمق بكثير يمتد لعشرات الآلاف من السنين.
الآثار المستقبلية وجهود الحفاظ
يفتح اكتشاف جبل ميسما الباب أمام المزيد من المشاريع البحثية والتنقيبات الأثرية في شمال المملكة العربية السعودية. تتوافق هذه الاكتشافات مع رؤية المملكة 2030، التي تولي اهتماماً كبيراً بتراثها الثقافي والتاريخي، وتسعى إلى تنمية السياحة الأثرية. ستساهم مثل هذه المواقع في جذب الباحثين والزوار، مما يسلط الضوء على عمق وغنى التراث السعودي.
غير أن الأهمية العلمية لهذه النقوش تفرض أيضاً مسؤولية كبيرة في الحفاظ عليها. فالنقوش الصخرية القديمة معرضة للعوامل الجوية والتآكل والتلف البشري. لذا، فإن الجهود المستقبلية ستركز حتماً على تطوير استراتيجيات مستدامة لحماية هذه المواقع الأثرية الفريدة، وتوثيقها بدقة باستخدام أحدث التقنيات، وضمان إمكانية دراستها للأجيال القادمة. هذا الاكتشاف يعيد تأكيد الدور المحوري للجزيرة العربية في السرد العالمي للتاريخ البشري.





