الحناء: فن ثقافي يجمع بين العلم والتقاليد
تُعد الحناء، بصبغتها الطبيعية ونقوشها الساحرة، شكلاً فنياً عريقاً يتجاوز مجرد الزينة ليصبح جزءاً لا يتجزأ من الهوية الثقافية والتراثية للعديد من المجتمعات حول العالم. في مطلع شهر مايو 2024، يتجدد النقاش حول هذا الفن، مسلطاً الضوء على التفاعل المعقد بين جذوره التقليدية العميقة والاكتشافات العلمية الحديثة التي تكشف عن خصائصه وتركيبته. لطالما كانت الحناء رمزاً للاحتفالات والفرح، لكن فهمها اليوم يمتد ليشمل دراسات معمقة حول سلامتها وفوائدها المحتملة، بالإضافة إلى التحديات التي تواجه ممارستها الأصيلة في العصر الحديث.

الجذور الثقافية والتراثية للحناء
تمتد تاريخية استخدام الحناء (المستخلصة من نبات Lawsonia inermis) لآلاف السنين، حيث تعود أقدم الأدلة على استخدامها إلى مصر القديمة، ثم انتشرت عبر الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وشبه القارة الهندية. كانت تُستخدم في البداية ليس فقط للزينة بل أيضاً لأغراض علاجية ورمزية. فقد ارتبطت الحناء ارتباطاً وثيقاً بالاحتفالات الكبرى مثل الأعراس والأعياد الدينية ومراسم الانتقال، حيث تُطبق نقوشها المعقدة على الأيدي والأقدام كرمز للحماية والخصوبة والحظ السعيد. تختلف أنماط النقوش ودلالاتها بشكل كبير بين الثقافات والمناطق؛ ففي الهند وباكستان، تشتهر نقوش الميهندي (Mehendi) الدقيقة، بينما في المغرب العربي، تتسم النقوش بالخطوط الهندسية الكبيرة، وفي السودان، تميل إلى التغطية الكاملة للقدمين. هذه التنوعات تعكس الثراء الثقافي الذي تحمله الحناء، حيث تُورث فنونها من جيل إلى جيل، لتصبح جزءاً من الذاكرة الجماعية والهوية المحلية.
الحناء من منظور علمي: التركيب والفوائد والمخاطر
من الناحية العلمية، يعود سر صبغة الحناء إلى مركب عضوي يُعرف باسم اللاوسون (Lawsone)، وهو المادة الفعالة الموجودة في أوراق نبات الحناء. يتفاعل هذا المركب مع بروتين الكيراتين الموجود في الطبقة الخارجية للجلد والشعر والأظافر، ليُشكل رابطة كيميائية دائمة تؤدي إلى تلون الجلد بلون يتراوح من البرتقالي المحمر إلى البني الداكن. وقد كشفت الأبحاث الحديثة عن أن الحناء النقية قد تمتلك خصائص مضادة للبكتيريا والفطريات، مما يفسر بعض استخداماتها التقليدية في الطب الشعبي لمعالجة بعض الأمراض الجلدية وتبريد الجسم في المناخات الحارة.
لكن الجانب العلمي للحناء لا يقتصر على فوائدها، بل يتطرق أيضاً إلى المخاطر المحتملة. ففي السنوات الأخيرة، انتشر ما يُعرف بـ "الحناء السوداء"، وهي ليست حناء طبيعية على الإطلاق، بل هي مزيج يحتوي على نسبة عالية من مادة البارافينيلين داي أمين (PPD)، وهي صبغة كيميائية صناعية قوية تُستخدم عادة في صبغات الشعر الدائمة. استخدام PPD مباشرة على الجلد يمكن أن يسبب تفاعلات تحسسية شديدة، تشمل الطفح الجلدي والحكة والتورم والبثور، وقد تؤدي إلى تندب دائم للجلد أو حساسية مدى الحياة تجاه هذه المادة، مما يمنع استخدام العديد من منتجات الشعر في المستقبل. أدت هذه المخاطر إلى دعوات متزايدة للتوعية بضرورة التمييز بين الحناء الطبيعية الآمنة والمنتجات المقلدة التي قد تُسبب أضراراً صحية خطيرة.
التطورات الحديثة والتحديات الراهنة
تشهد الحناء في العصر الحديث اهتماماً متزايداً على مستوى عالمي، حيث لم تعد محصورة في مجتمعاتها التقليدية فقط، بل أصبحت تُمارس كفن عالمي. هذا الانتشار صاحبه تطور في طرق التطبيق والتصاميم، لكنه أثار أيضاً تحديات مهمة. من هذه التحديات، ضرورة الحفاظ على أصالة الفن ومواجهة المنتجات التجارية التي قد لا تلتزم بمعايير الجودة والسلامة. كما يواجه الفنانون التقليديون تحدي المنافسة من المنتجات الصناعية الرخيصة، مما يستدعي دعم الممارسات المستدامة والأصيلة لضمان استمرار هذا التراث. كما تلعب المنظمات الصحية دوراً حيوياً في نشر الوعي حول مخاطر PPD والحناء السوداء، وتشجيع المستهلكين على البحث عن الحناء الطبيعية النقية والموثوقة.
لماذا يهم هذا الموضوع؟
يكمن أهمية النقاش حول الحناء في عدة جوانب محورية: أولاً، هو ضرورة ملحة للحفاظ على التراث الثقافي اللامادي الذي تجسده الحناء، وضمان عدم اندثاره أو تشويهه. ثانياً، يتعلق الأمر بـ الصحة العامة وسلامة المستهلكين، خصوصاً مع انتشار المنتجات الضارة التي تستغل شعبية الحناء. ثالثاً، يمثل هذا الموضوع نموذجاً فريداً لـ تفاعل المعارف التقليدية مع البحث العلمي، حيث يمكن للعلم أن يدعم ويؤكد بعض الممارسات القديمة، بينما يقدم تحذيرات ضرورية ضد أخطار معينة. أخيراً، يسهم فهم الحناء من كلا المنظورين في تعزيز التبادل الثقافي الواعي والمستنير.
في الختام، تبقى الحناء أكثر من مجرد صبغة أو رسم؛ إنها جسر يربط الأجيال والثقافات، وتجسد فنوناً عريقة تتناغم مع حقائق علمية. يظل الوعي والتعليم هما المفتاح لضمان استمرار هذا الفن الثقافي الغني بطريقة آمنة ومستدامة، تليق بمكانته التاريخية والتراثية.




