الزنزانة تتحول إلى ساحة للمقاومة: قصة "جهنمية" ونضال الأسيرات
في الأيام الأخيرة الحاسمة قبيل سقوط نظام عمر البشير، وجدت شابة سودانية تُدعى شامة نفسها في مواجهة غير متوقعة مع آلة القمع الحكومية. كانت شامة متجهة إلى إحدى المظاهرات التي عمت البلاد حينما اعتقلتها قوات الأمن بوحشية، لتُلقى بعدها في زنزانة ضيقة ومعتمة. هناك، وجدت نفسها برفقة أربع نساء أخريات أنهكتهن شهور طويلة من الاعتقال القاسي. هذه الزنزانة، التي أُطلق عليها وصف "جهنمية" كناية عن قسوة ظروفها، لم تكن مجرد مكان للاحتجاز، بل تحولت تدريجياً إلى مسرح غير متوقع للمقاومة والصمود.

الحالة السياسية ودور المرأة في الثورة
شهدت السودان في الفترة الممتدة من أواخر عام 2018 ومطلع عام 2019 موجة عارمة من الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة، والتي بدأت على خلفية الأزمات الاقتصادية الخانقة، وارتفاع أسعار الوقود والخبز. سرعان ما تصاعدت هذه المظاهرات لتتحول إلى مطالب بإسقاط نظام الرئيس عمر البشير الذي حكم البلاد لثلاثة عقود. واجه النظام هذه الاحتجاجات بقمع شديد، شمل استخدام الذخيرة الحية والاعتقالات الجماعية وإعلان حالة الطوارئ.
لعبت المرأة السودانية دوراً محورياً وغير مسبوق في هذه الثورة. ففي تحدٍ للمجتمع والقمع، تصدرت النساء الصفوف الأمامية للمظاهرات، وهتفن بالشعارات الثورية، ونظمن الفعاليات الاحتجاجية. وقد أصبحت صورهن وهن يقدن الحشود رموزاً أيقونية للثورة. هذا الدور البارز جعلهن هدفاً مباشراً لقوات الأمن، التي استهدفت النساء بالاعتقال والتعنيف في محاولة لكسر عزيمتهن وتثبيط الثورة.
ظروف الاعتقال القاسية في "جهنمية"
جسدت ظروف الاعتقال في الزنازين السودانية، مثل تلك التي وُجدت فيها شامة ورفيقاتها، ذروة القمع الذي مارسه النظام. كانت الزنازين عادة ما تكون مكتظة، تفتقر لأبسط مقومات النظافة والرعاية الصحية. كانت الإضاءة سيئة إن وجدت، ومرافق الصرف الصحي بدائية أو معدومة، مما عرض المعتقلات لمختلف الأمراض. إضافة إلى الظروف المادية المتردية، تعرضت الأسيرات للإساءات اللفظية والنفسية، وأحياناً الجسدية، خلال التحقيقات التي كانت تهدف إلى انتزاع المعلومات أو ببساطة لكسر الروح المعنوية.
كانت الحجرات المعتمة تفتقر إلى الهواء النقي، والطعام المقدم بالكاد يكفي لسد الرمق، هذا فضلاً عن الحرمان من التواصل مع العالم الخارجي أو الحصول على استشارة قانونية. كل هذه العوامل صُممت لخلق شعور بالعزلة واليأس المطلق، وتحويل الزنزانة إلى مكان يمحو فيه المعتقلون إنسانيتهم.
المقاومة داخل الأسوار: من اليأس إلى الصمود
على الرغم من الظروف اللاإنسانية، لم تتحول الزنزانة إلى مجرد قبر للآمال، بل أصبحت، بالنسبة للكثيرات من الأسيرات، مسرحاً للمقاومة بأنماط مختلفة: جهنمية تحولت إلى اسم يرمز للتحدي.
- التضامن والدعم النفسي: داخل الزنازين الضيقة، نسجت النساء شبكة من التضامن والدعم المتبادل. تبادلن القصص، شاركن الطعام القليل، وواسين بعضهن البعض في أوقات اليأس. هذه الروابط الإنسانية كانت أساسية للحفاظ على الصحة النفسية والعزيمة.
- المقاومة الفكرية والثقافية: تحولت الزنازين إلى فصول دراسية مرتجلة. تبادلت المعتقلات المعرفة، وقرأن القرآن، وتناقشن في القضايا السياسية والاجتماعية. كانت بعضهن يتبادلن الأناشيد الثورية بصوت خافت، أو يرتلن الأدعية، مما حفظ الروح الثورية حية.
- الحفاظ على الكرامة: تمثلت المقاومة أيضاً في أفعال صغيرة لكنها ذات دلالة كبيرة، مثل محاولة الحفاظ على النظافة الشخصية بالحد الأدنى من الإمكانيات، أو الإصرار على الصلاة الجماعية، أو رفض الانصياع الكامل لأوامر السجانين بطرق غير مباشرة، كل ذلك كان جزءاً من الحفاظ على الذات والكرامة.
- بث الأمل: كانت الأسيرات يحرصن على تبادل أي أخبار تصلهن عن سير المظاهرات في الخارج، مما يجدد الأمل في النصر ويؤكد لهن أن تضحياتهن ليست هباءً.
هذه الأفعال، على بساطتها الظاهرية، كانت بمثابة فعل مقاومة عميق، يحول فضاء القمع إلى مساحة لإعادة تأكيد الذات والإنسانية، ويُظهر أن الروح الثورية لا يمكن سجنها مهما بلغت قسوة الجدران.
التأثير الأوسع والصدى
لم تكن مقاومة الأسيرات في "جهنمية" منعزلة عن الحراك الثوري العام. فعلى الرغم من أن هذه القصص كانت تُروى همساً في البداية، إلا أنها سرعان ما وجدت طريقها إلى آذان المتظاهرين في الخارج عبر أهالي المعتقلات أو من تم إطلاق سراحهم. كانت شهاداتهن عن الصمود والتحدي خلف القضبان بمثابة وقود إضافي للثورة، تزيد من غضب الجماهير تجاه النظام وتؤكد بشاعة قمعه. وقد ساهمت هذه القصص في تعزيز التضامن الشعبي وتوحيد الصفوف ضد الاستبداد.
الخاتمة والإرث
إن قصة شامة ورفيقاتها في "جهنمية" هي جزء لا يتجزأ من الملحمة الكبرى للثورة السودانية. في الوقت الذي كانت فيه البلاد تتجه نحو منعطف تاريخي حاسم، وتحديداً في الأسابيع الأخيرة التي سبقت سقوط نظام عمر البشير في 11 أبريل 2019، أصبحت هذه الزنازين، رغم ظلامها وعتمتها، دليلاً على قوة الروح البشرية في مواجهة الظلم. لقد أثبتت الأسيرات أن القمع يمكن أن يولد المقاومة، وأن أشد الظروف قسوة يمكن أن تتحول إلى مسرح للتحدي والإصرار على الحرية والكرامة. أصبحت "جهنمية" رمزاً للقدرة على تحويل الألم إلى قوة، ولتحويل الاحتجاز إلى ساحة لا ينضب فيها نبع النضال.




