السودان: صراع الهوية ومستقبل الدولة بين الفاشر وأبولولو
تُعدّ "فكرة السودان" مشروعًا وطنيًا معقدًا وشائكًا، يتشكل باستمرار بفعل التفاعلات التاريخية والجغرافية والسياسية المتجذرة. وفي خضم الأحداث الجارية التي تشهدها البلاد، تبرز مدن ومناطق معينة كرموز لهذا الصراع الدائم على الهوية ومستقبل الدولة. تُجسّد التوترات بين الفاشر وأبولولو - وإن كان الأخير قد يحمل دلالة رمزية لأطراف السودان المهمشة - خلاصة التحديات التي تواجه بناء دولة جامعة ومستقرة في السودان.

في الأشهر الأخيرة، ومع تصاعد الصراع المسلح الذي يجتاح البلاد، عاد النقاش حول طبيعة الدولة السودانية وهويتها إلى الواجهة بقوة، مؤكدًا أن الأزمة الراهنة ليست مجرد صراع على السلطة، بل هي تجلٍ لتراكمات عقود من التهميش والاختلاف حول شكل ومضمون "الفكرة السودانية".
الخلفية التاريخية: تشكيل "فكرة السودان"
لم تكن "فكرة السودان" يومًا مفهومًا أحاديًا متفقًا عليه. فقد نشأت الدولة الحديثة على أسس استعمارية، جمعت تحت مظلتها شعوبًا وقبائل ذات أصول ثقافية ولغوية متباينة، تمتد من الصحراء شمالًا إلى مناطق السافانا والاستوائية جنوبًا. بعد الاستقلال عام 1956، ورثت الحكومات المتعاقبة تحديًا كبيرًا يتمثل في صهر هذه التنوعات في بوتقة هوية وطنية واحدة.
اتسمت حقبة ما بعد الاستقلال بسعي متكرر لفرض نموذج مركزي للدولة، غالبًا ما كان يتمحور حول هوية عربية إسلامية، وهو ما أدى إلى تهميش واسع الننوع للأطراف غير العربية وغير المسلمة، وكذلك للمجموعات التي لم تجد نفسها ممثلة في مركز السلطة بالخرطوم. هذا النهج أفرز حركات مقاومة مسلحة وسياسية متعددة، أبرزها في الجنوب، والتي أفضت في النهاية إلى انفصال جنوب السودان عام 2011. كما غذى هذا التهميش صراعات في مناطق أخرى مثل دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، حيث طالب السكان بمزيد من العدالة والمشاركة في السلطة والثروة.
الفاشر: قلب دارفور ونقطة اشتعال الصراع
تمثل مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، نموذجًا حيًا لنقطة الالتقاء والاشتعال في صراع "الفكرة السودانية". تاريخيًا، كانت الفاشر مركزًا للسلطنة الدارفورية، ثم أصبحت معقلًا للإدارة الإقليمية السودانية، ورمزًا لتنوع دارفور العرقي والثقافي. لكنها في الوقت ذاته، أصبحت بؤرة للصراعات التي عصفت بالمنطقة منذ أوائل الألفية الثالثة، عندما اندلعت انتفاضة مسلحة ضد الحكومة المركزية في الخرطوم، متهمة إياها بتهميش الإقليم سياسيًا واقتصاديًا.
شهدت الفاشر ومحيطها عقودًا من العنف، بما في ذلك هجمات الميليشيات والصراعات القبلية، والنزوح الجماعي. في الفترة الأخيرة، ومع اندلاع الحرب بين القوات المسلحة السودانية (SAF) وقوات الدعم السريع (RSF) في أبريل 2023، أصبحت الفاشر إحدى آخر المدن الكبرى في دارفور التي لم تسقط بالكامل تحت سيطرة الدعم السريع، مما جعلها مسرحًا لمعارك ضارية. هذا الوضع ليس مجرد صراع عسكري؛ بل هو تجسيد للمنافسة على النفوذ والسيطرة على منطقة حيوية، ويمثل استمرارًا للصراع الأوسع حول من يحكم السودان، وبأي رؤية.
أبولولو: رمزية الأطراف وتطلعات السودان البديل
في مقابل الفاشر، يمكن اعتبار "أبولولو" (وهي دلالة رمزية هنا للمناطق والأطراف المهمشة أو المطالبة برؤى بديلة) صوتًا للتنوع السوداني الذي طالما نادى بنموذج دولة مختلف. قد تمثل أبولولو تطلعات الأقاليم التي سعت لعقود إلى اللامركزية الحقيقية، أو الحكم الذاتي، أو حتى فدرالية تُعيد توزيع السلطة والثروة بشكل عادل. إنها ترمز إلى المطالب التاريخية لجبال النوبة، والنيل الأزرق، وشرق السودان، ومناطق أخرى شعرت بالتهميش والظلم من مركز السلطة في الخرطوم.
تتمحور "فكرة السودان" من منظور "أبولولو" حول مفهوم المواطنة المتساوية، بغض النظر عن العرق أو الدين أو الجهة. إنها رؤية لسودان تعددي، حيث تتشارك جميع المكونات في صياغة مستقبله، وحيث لا تُهيمن هوية واحدة على حساب الأخريات. هذا المنظور يُبرز أهمية بناء مؤسسات ديمقراطية قوية، تحمي حقوق الأقليات، وتضمن تمثيلًا عادلًا لجميع الأطراف في الدولة. إن الصراع بين الفاشر و"أبولولو" الرمزية يعكس بوضوح التناقضات بين مركزية السلطة وتطلعات الأطراف، وبين نموذج الدولة الذي يركز على هوية واحدة وبين نموذج الدولة المتعددة الهويات.
التطورات الراهنة وتعمق الأزمة
لقد عمق الصراع الدائر حاليًا بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، والذي اندلع في أبريل 2023، هذه الجدلية حول "الفكرة السودانية". فقد كشفت الحرب عن هشاشة الدولة ومؤسساتها، وعرضت المدنيين لخطر جسيم، مما أدى إلى واحدة من أكبر الأزمات الإنسانية في العالم. المدن الكبرى مثل الخرطوم وعدد من مدن دارفور، بما فيها الفاشر، تحولت إلى ساحات قتال، مما فاقم النزاعات المحلية ونسف أي جهود سابقة للمصالحة.
تُظهر الأحداث الأخيرة أن الفشل في معالجة التناقضات الأساسية حول الهوية والحكم في السودان قد بلغ ذروته. إن غياب توافق وطني على رؤية جامعة للدولة السودانية يهدد الآن بتمزيق النسيج الاجتماعي والسياسي للبلاد، وربما يقود إلى تفكك فعلي أو صراع طويل الأمد لا غالب فيه ولا مغلوب.
لماذا يهم هذا الصراع؟
إن فهم "صراع الهوية ومستقبل الدولة بين الفاشر وأبولولو" أمر بالغ الأهمية لعدة أسباب:
- الاستقرار الإقليمي: السودان لاعب رئيسي في منطقة القرن الأفريقي وشمال أفريقيا. انهيار الدولة السودانية أو استمرار عدم استقرارها ستكون له تداعيات وخيمة على الدول المجاورة، من حيث تدفق اللاجئين وانتشار الجماعات المسلحة وزعزعة الأمن الإقليمي.
- المأساة الإنسانية: يدفع المدنيون الثمن الأكبر لهذا الصراع. الملايين نزحوا وتشردوا، والعديد يواجهون المجاعة، وتتدهور الخدمات الصحية الأساسية. إن حل الأزمة يمثل ضرورة إنسانية عاجلة.
- مستقبل الأمة: يتعلق الأمر بمصير عشرات الملايين من السودانيين وحقهم في العيش بسلام وكرامة في دولة تحترم تنوعهم وتوفر لهم الفرص. إنه اختبار لقدرة الأمة على تجاوز انقساماتها وبناء مستقبل مشترك.
- نموذج لبناء الدولة: تمثل التجربة السودانية دراسة حالة حاسمة لتحديات بناء الدولة في المجتمعات المتنوعة بعد الاستعمار. إن نجاح السودان في بناء نموذج حكم شامل يمكن أن يوفر دروسًا قيمة للمناطق الأخرى التي تواجه تحديات مماثلة.
باختصار، يمثل "صراع الهوية ومستقبل الدولة بين الفاشر وأبولولو" جوهر التحديات التي تواجه السودان. إن السبيل الوحيد نحو مستقبل مستقر ومزدهر يكمن في إيجاد توافق وطني حول "فكرة السودان" التي تحتضن جميع مكوناته وتلبي تطلعات العدالة والمشاركة لمواطنيه من جميع الأطراف.




