الفن سلاح وصوت فلسطين: رؤية صالح بكري لمقاومة ثقافية
أكد الممثل الفلسطيني البارز صالح بكري، في تصريحات أدلى بها مؤخراً، على أن الفن ليس مجرد وسيلة للتعبير أو الترفيه، بل هو أداة قوية للمقاومة، ويشكل صوتاً حيوياً يعبر عن الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة أمام العالم. تعكس هذه الرؤية إيماناً عميقاً بدور الثقافة والفنون في صياغة الهوية، وتوثيق الرواية، وتحدي السرديات المهيمنة، وتقديم منظور إنساني للقضية الفلسطينية.

تأتي تصريحات بكري، الذي يحظى بتقدير واسع على المستويين المحلي والدولي لأدواره المتنوعة في السينما والمسرح، لتسلط الضوء مجدداً على الارتباط الوثيق بين الإبداع الفني والصمود الوطني. فهو يرى أن الفن قادر على اختراق الحواجز الجغرافية والسياسية، والوصول إلى قلوب وعقول الجمهور العالمي، مقدماً سردية أصيلة تختلف عن الصورة النمطية التي قد تروجها بعض وسائل الإعلام.
الفن الفلسطيني والمقاومة: سياق تاريخي
لم تكن رؤية صالح بكري هذه وليدة اللحظة، بل هي امتداد لإرث طويل من المقاومة الثقافية المتجذرة في التاريخ الفلسطيني. فمنذ النكبة عام 1948، لعب الفن بشتى أشكاله دوراً محورياً في الحفاظ على الهوية الوطنية، وتوثيق المعاناة، وتذكير الأجيال بتاريخها وحقوقها. الشعراء الكبار أمثال محمود درويش وسميح القاسم، والروائيون مثل غسان كنفاني، جسدوا في أعمالهم مرارة اللجوء وحلم العودة، محولين الكلمات إلى خنادق للصمود ومنابر للعدالة.
تطورت أشكال المقاومة الفنية لتشمل السينما والمسرح والموسيقى والفنون التشكيلية، كل منها يقدم زاوية فريدة لرواية الفلسطينيين. الأفلام الفلسطينية، التي حقق بعضها جوائز عالمية، لم تكن مجرد أعمال سينمائية، بل وثائق حية وصرخات مدوية ضد الظلم، تعرض الحياة اليومية تحت الاحتلال، وصمود الإنسان الفلسطيني، وتطلعاته للحرية والكرامة. هذه الأعمال تسهم في بناء فهم أعمق للقضية، وتكسر القوالب الجاهزة، وتقدم شخصيات فلسطينية متعددة الأوجه والإنسانية.
تأثير الفن كمنصة عالمية
يمثل الفن وسيلة فعالة لإيصال الصوت الفلسطيني إلى المحافل الدولية، حيث يفتقد الفلسطينيون في كثير من الأحيان إلى منصات إعلامية وسياسية متساوية. عندما يشارك فيلم فلسطيني في مهرجان سينمائي دولي، أو تعرض لوحة فنية في معرض عالمي، أو تؤدى مسرحية على خشبة مسرح مرموق، فإنها لا تعرض عملاً فنياً فحسب، بل تحمل رسالة ثقافية وسياسية عميقة. هذه الرسالة تتجاوز حدود اللغة والثقافة، وتتفاعل مع الوعي الإنساني العالمي.
إن قدرة الفن على إثارة التعاطف والتساؤلات هي ما يجعله "سلاحاً" فعالاً. فبدلاً من الخطابات السياسية الجافة، يقدم الفن قصصاً شخصية، وتجارب إنسانية ملموسة، مما يساعد الجمهور على فهم التعقيدات وراء العناوين الإخبارية. صالح بكري، بأدائه المقنع في أفلام حققت شهرة عالمية مثل "واجب" و"الفرقة" (The Band's Visit)، يساهم بشكل مباشر في تجسيد هذه الروايات الإنسانية، ويضع وجه الفلسطيني وتجربته في صميم النقاش العالمي.
تحديات وفرص
على الرغم من الأهمية الكبيرة للفن كأداة للمقاومة، يواجه الفنانون الفلسطينيون تحديات جمة. تتضمن هذه التحديات القيود المفروضة على الحركة والتنقل، وصعوبة الحصول على التمويل والدعم اللازمين لإنتاج أعمالهم، بالإضافة إلى محاولات الرقابة وتشويه السردية الفلسطينية. ومع ذلك، فإن هذه التحديات لم تثنِ الفنانين عن مواصلة إبداعهم، بل ربما زادت من إصرارهم على استخدام الفن كوسيلة للصمود.
في المقابل، فتحت التطورات التكنولوجية الحديثة، وخاصة منصات التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية، آفاقاً جديدة للفنانين الفلسطينيين للوصول إلى جمهور أوسع. أصبح بإمكانهم مشاركة أعمالهم، والتفاعل مباشرة مع المعجبين، وبناء مجتمعات داعمة تتجاوز الحدود الجغرافية، مما يعزز من دورهم كـ"صوت" حيوي ومؤثر.
أهمية الحفاظ على الهوية الثقافية
في جوهر رؤية صالح بكري، تكمن فكرة أن الفن ليس مجرد رد فعل على الاحتلال، بل هو أيضاً وسيلة للحفاظ على الهوية الثقافية الفلسطينية وتراثها الغني. في ظل محاولات محو الوجود الفلسطيني، يصبح الإبداع الفني أداة ضرورية لتثبيت الرواية، وتأكيد الحق في الوجود، والاحتفاء بالقيم والتقاليد واللغة التي تميز الشعب الفلسطيني.
إن المقاومة الثقافية التي يتحدث عنها بكري هي عملية مستمرة لتعزيز الصمود، ليس فقط في مواجهة التحديات السياسية، بل أيضاً في الحفاظ على النسيج الاجتماعي والثقافي للأمة. كل عمل فني، سواء كان قصيدة، أو فيلماً، أو أغنية، هو بمثابة لبنة في بناء جدار من الوعي والتذكير بحق الفلسطينيين في أرضهم وتاريخهم ومستقبلهم.
في الختام، تعيد تصريحات صالح بكري التأكيد على الدور الذي لا غنى عنه للفن في النضال الفلسطيني. إنه يجسد الاعتقاد بأن الإبداع يمكن أن يكون أقوى من أي سلاح تقليدي، كونه يخاطب الروح والضمير، ويوحد الشعوب حول قضية العدالة والحرية. وتبقى أعمال الفنانين الفلسطينيين، ومنهم بكري، شهادات خالدة على مرونة شعب يتشبث بحقه في التعبير عن ذاته، وروايته، ووجوده.





