الفنان بطرس المعرّي يستحضر ذاكرة دمشق في معرض 'عبلة في باب توما'
في خطوة فنية لافتة، قدّم الفنان التشكيلي السوري البارز بطرس المعرّي معرضه الفردي بعنوان "عبلة في باب توما" في غاليري تجليات بدمشق أواخر عام 2021. يمثل المعرض رحلة عبر الزمن والذاكرة، حيث يستدعي الفنان شخصية "عبلة" الأسطورية، حبيبة عنترة بن شداد، من عمق الصحراء والتاريخ العربي ليضعها في سياق غير متوقع: أزقة وحارات حي باب توما الدمشقي العريق. من خلال هذه المفارقة، يفتح المعرّي حواراً بصرياً عميقاً حول الهوية، والتراث، والتحولات التي طرأت على روح المدينة.

خلفية المعرض والمفهوم الفني
يقوم مفهوم المعرض على فكرة جريئة تتمثل في نقل شخصية أسطورية مرتبطة بالفروسية والصحراء إلى قلب واحدة من أقدم المدن المأهولة في العالم. لم تكن "عبلة" يوماً شخصية دمشقية، وهذا الابتعاد المتعمد عن سياقها الأصلي هو جوهر العمل الفني. يستخدم المعرّي شخصية عبلة كرمز للجمال الخالد والنقاء، وكشاهد خارجي يراقب بصمت تفاصيل الحياة اليومية في دمشق القديمة، خاصة تلك التي كانت سائدة قبل سنوات الحرب. هي عين تراقب عالماً يتلاشى، وتمثل حلقة وصل بين ماضٍ أسطوري مجيد وماضٍ قريب مليء بالحنين.
تتجول عبلة في اللوحات كطيفٍ جميل، تمرّ بالمقاهي الشعبية، وتتأمل وجوه الرجال المنغمسين في أحاديثهم وألعابهم، لتصبح بذلك مرآة تعكس ذاكرة المكان الجماعية. يهدف الفنان من خلال هذا الطرح إلى استكشاف فكرة الذاكرة المتخيلة وكيف يمكن للأساطير أن تكتسب معاني جديدة عند وضعها في سياقات حديثة، مما يثير تساؤلات حول علاقتنا بالتراث وكيفية الحفاظ عليه في وجه التغيير.
تفاصيل الأعمال الفنية وأسلوب الفنان
تتميز لوحات معرض "عبلة في باب توما" بأسلوب بطرس المعرّي التعبيري المعروف، حيث الألوان الغنية والضربات الفرشاة الجريئة التي تضفي حيوية وعمقاً على المشاهد. يركّز المعرّي على تصوير الأجواء الحميمية للمقاهي الدمشقية التقليدية، وهي থيمة متكررة في أعماله. تظهر في اللوحات تفاصيل دقيقة تعزز الإحساس بالواقعية والحنين، مثل:
- طاولات اللعب المليئة بأوراق الشدة والدومينو.
- النراجيل (الأراجيل) التي يتصاعد منها الدخان.
- أكواب الشاي ورائحة الحلويات الشعبية التي تكاد تكون ملموسة.
- وجوه الرجال التي تحمل ملامح أجيال من حكايات المدينة وتاريخها الاجتماعي.
في هذا السياق، تبدو "عبلة" عنصراً حالماً، مرسومة بألوان أكثر إشراقاً ونعومة مقارنة بالبيئة المحيطة بها، مما يؤكد على طبيعتها الأسطورية وغربتها عن المكان. هذا التباين البصري بين الشخصية والمكان يخلق حالة من الشاعرية والتأمل، ويدعو المشاهد إلى التفكير في الفجوة بين الحلم والواقع، وبين الماضي والحاضر.
الأبعاد الثقافية والدلالات
يتجاوز المعرض كونه مجرد عرض فني جمالي ليصبح وثيقة بصرية ورسالة ثقافية مهمة. في وقت شهدت فيه سوريا تحولات اجتماعية وسياسية عميقة، يأتي عمل المعرّي ليؤكد على أهمية التمسك بالذاكرة الثقافية كمصدر للقوة والصمود. اختيار حي باب توما، وهو أحد الأحياء المسيحية التاريخية في دمشق، يحمل دلالة خاصة على التنوع والتعددية التي لطالما ميزت النسيج الاجتماعي للمدينة.
إن استحضار شخصية "عبلة" في هذا الحي بالذات هو بمثابة دعوة لتجاوز الانقسامات وتأكيد الهوية السورية الجامعة التي تتغذى من روافد تاريخية وثقافية متعددة. كما يمثل المعرض مرثية هادئة لنمط حياة بدأ بالاندثار، حيث كانت المقاهي فضاءات عامة للتلاقي الاجتماعي وتبادل الأفكار، وهو ما تأثر بفعل الظروف الراهنة. بذلك، لا يقدّم المعرّي مجرد لوحات فنية، بل يطرح أسئلة حول المستقبل الثقافي للمدينة وكيفية الحفاظ على روحها الأصيلة.





