انتعاش طفيف فى المزادات وسوق الفن يدخل عصر السلامة أولا
شهد سوق الفن العالمي في الآونة الأخيرة مؤشرات على انتعاش متواضع في نشاط المزادات، وهو ما يأتي مصحوبًا بتحول ملحوظ في تفضيلات هواة جمع الأعمال الفنية. فبينما يُظهر المشترون استعدادًا للإنفاق، يبدو أن هناك توجهًا واضحًا نحو الأعمال الفنية التي تُعتبر أكثر "أمانًا" من حيث القيمة والاستثمار، ما يشير إلى فترة يطغى عليها الحذر في قطاع لطالما عُرف بمغامراته الجريئة. هذا التغيير يعكس استجابة السوق للظروف الاقتصادية العالمية المتغيرة، حيث بات التركيز على الاستقرار والجودة المضمونة أكثر من أي وقت مضى.

السياق الاقتصادي وتأثيره على سوق الفن
لطالما كان سوق الفن مرآة تعكس الأوضاع الاقتصادية الأوسع نطاقًا، ومع التقلبات التي شهدها الاقتصاد العالمي خلال السنوات القليلة الماضية – من تحديات الجائحة إلى ارتفاع معدلات التضخم وأسعار الفائدة، بالإضافة إلى التوترات الجيوسياسية – أصبح المستثمرون وهواة الجمع أكثر حذرًا في قرارات الشراء. بعد فترة من النمو القوي المدفوع بالسيولة الزائدة والاهتمام بالمنصات الرقمية، واجه السوق تباطؤًا حتميًا. هذا التباطؤ دفع بالمشترين إلى إعادة تقييم استراتيجياتهم، مفضلين الأصول التي تُنظر إليها على أنها ملاذ آمن للقيمة في أوقات عدم اليقين. تسببت هذه العوامل مجتمعة في إعادة تشكيل ديناميكيات العرض والطلب، حيث أصبحت القيمة المتصورة للأعمال الفنية مرتبطة بشكل وثيق بقدرتها على الاحتفاظ بقيمتها أو زيادتها على المدى الطويل.
التحول نحو "السلامة أولاً": تعريف ومعالم
إن مبدأ "السلامة أولاً" في سوق الفن يعني الابتعاد عن الأعمال الفنية التجريبية أو المعاصرة ذات المخاطر العالية، والتركيز بدلاً من ذلك على فئات فنية أكثر رسوخًا وتقليدية. يتجلى هذا التوجه في عدة معالم رئيسية:
- الأعمال الكلاسيكية والفنانون المعتمدون: يميل المشترون إلى الاستثمار في أعمال لفنانين لهم سجل حافل ومعترف بهم عالميًا، أو في قطع تنتمي إلى فترات فنية أثبتت قيمتها عبر الزمن. هذه الأعمال غالبًا ما تكون ذات تاريخ ملكية واضح وتقدير فني راسخ، مما يقلل من مخاطر الاستثمار.
- الفن الحديث والمعاصر ذو الجودة العالية: حتى ضمن فئة الفن المعاصر، يفضل السوق الأعمال المنجزة من قبل أسماء لامعة أو تلك التي تحمل توقيع فنانين مشهورين لديهم حضور قوي في المتاحف والمجموعات الرئيسية، بدلاً من الفنون الناشئة أو التجريبية التي لم تُثبت بعد جدواها التجارية.
- التركيز على الأصالة والنسب: أصبح التحقق من أصالة العمل وتاريخ ملكيته (provenance) أكثر أهمية، حيث يسعى المشترون لضمان استثمارهم في قطع موثوقة وغير قابلة للتشكيك في قيمتها.
- التفضيل للأنماط التقليدية: كما لوحظ في أسابيع المزادات والمعارض الأخيرة، هناك إقبال على أعمال فنية تصور مناظر طبيعية، أو أعمال تصوير فوتوغرافي كلاسيكية، أو لوحات ذات طابع سردي مألوف، مما يشير إلى رغبة في الفن الذي يوفر شعورًا بالراحة والجمالية التقليدية بعيدًا عن التحديات الفكرية للفن التجريبي. هذا يمثل تحولًا كبيرًا عن الاتجاه الذي ساد لسنوات والذي احتفى بالابتكار الجريء والحدود الفنية المتجاوزة.
مؤشرات الانتعاش الطفيف وتحدياته
رغم التوجه الحذر، تشير بعض البيانات الصادرة في الربع الثاني من عام 2024 إلى أن النشاط في المزادات قد بدأ يستعيد بعضًا من عافيته، وإن كان بوتيرة بطيئة. ارتفعت مبيعات بعض الدور الكبرى بنسب طفيفة، مدفوعة بصفقات قوية لعدد محدود من الأعمال الفنية المرموقة. ومع ذلك، لا يزال هذا الانتعاش جزئيًا وغير متساوٍ، حيث تستمر بعض قطاعات السوق في مواجهة صعوبات. هذا الانتعاش لا يشير إلى عودة وشيكة لازدهار السوق الذي شهدناه في السنوات السابقة، بل هو مؤشر على وجود قاعدة قوية من المشترين المستعدين للإنفاق ولكن بشروط أكثر صرامة ومعايير اختيار أعلى. تعكس هذه الأرقام رغبة ملحة لدى المستثمرين في تنويع محافظهم الاستثمارية بأصول ملموسة تُعرف بقيمتها المتأصلة، حتى في ظل ظروف اقتصادية غير مستقرة.
الأسباب الكامنة وراء هذا التوجه الحذر
يمكن تلخيص الأسباب وراء دخول سوق الفن "عصر السلامة أولاً" في النقاط التالية:
- الضغوط الاقتصادية: يؤدي ارتفاع التضخم وتكلفة الاقتراض إلى تقليل القوة الشرائية عمومًا، ويجعل المستثمرين أكثر انتقائية في تخصيص رؤوس أموالهم للأصول الفنية، مفضلين تلك التي توفر استقرارًا أكبر.
- تقلبات السوق: أثبتت فترات الاضطراب الاقتصادي أن الأعمال الفنية التجريبية أو غير المعروفة يمكن أن تكون عرضة لتقلبات شديدة في القيمة، في حين أن الأعمال الفنية الكلاسيكية أو للفنانين المرموقين غالبًا ما تكون أكثر مقاومة للتراجعات.
- عقلية الاستثمار: يتعامل الكثير من هواة الجمع الكبار مع الفن كأصل استثماري مكمل للمحفظة، وبالتالي يبحثون عن الأصول التي يمكن أن تحافظ على قيمتها أو تزيدها، بدلاً من المغامرة في مجالات غير مؤكدة.
- التحول الثقافي: قد يكون هناك أيضًا تحول ثقافي أوسع نطاقًا يعكس رغبة في العودة إلى القيم الجمالية والتقاليد الفنية التي توفر شعورًا بالاستمرارية والألفة في عالم سريع التغير.
التداعيات على الفنانين والمؤسسات الفنية
لهذا التوجه تأثيرات متباينة على مختلف أطراف سوق الفن. بالنسبة للفنانين الشباب أو العاملين في الفنون التجريبية، قد يمثل هذا تحديًا، حيث قد يجدون صعوبة أكبر في جذب الانتباه والمشترين في سوق يتجه نحو الأعمال الأكثر رسوخًا. وقد تحتاج المعارض الصغيرة والناشئة التي تركز على هذه الأنواع من الفن إلى إعادة تقييم استراتيجياتها. في المقابل، قد تستفيد دور المزادات الكبرى والمعارض ذات السمعة العريقة التي تتعامل مع الأعمال الزرقاء (blue-chip artworks) من هذا التحول، حيث يركز المشترون جهودهم على هذه المنصات التي توفر الثقة والخبرة. على المدى الطويل، قد يدفع هذا التحول الفنانين والمؤسسات إلى التفكير بشكل أعمق في كيفية موازنة الابتكار الفني مع المتطلبات المتغيرة للسوق، أو استكشاف قنوات جديدة للوصول إلى الجمهور وتقديم أعمالهم.
في الختام، يُظهر سوق الفن العالمي حاليًا مزيجًا من الحذر والتفاؤل المحدود. فبينما يستمر الانتعاش الطفيف في إعطاء الأمل، فإن دخول السوق إلى "عصر السلامة أولاً" يؤكد على أن المستثمرين وهواة الجمع يضعون الأولوية للاستقرار والقيمة المضمونة. هذا التوجه سيحدد بلا شك مسار تطور سوق الفن في المستقبل القريب، مشيرًا إلى فترة من الانتقائية والتركيز على الجودة والاعتمادية.



