برنامج "مصر تغني" يسلط الضوء على فن "التربللة" في القصير وتاريخ "البيوت" من حتشبسوت إلى نابليون
ضمن جهوده المستمرة لتوثيق الفنون التراثية المصرية الأصيلة، خصص برنامج "مصر تغني"، في موسمه الثاني، حلقة خاصة للتعريف بفن "التربللة" الفريد، الذي يُعد جزءًا لا يتجزأ من النسيج الثقافي لمدينة القصير بمحافظة البحر الأحمر. تأتي هذه الحلقة في سياق تسليط البرنامج الضوء على كنوز مصر الفنية غير المكتشفة، بعدما قدم سابقًا استعراضًا لفن "الكف القبلاوي" المنتشر في صعيد مصر، وتحديدًا في محافظة الأقصر.
تم بث هذه الحلقة، التي لاقت اهتمامًا واسعًا، خلال الفترة التي شهدت فيها مواسم البرنامج الثانية نشاطًا ملحوظًا في أواخر عام 2017 وأوائل عام 2018. وقد استعرضت الحلقة أبعادًا متعددة لهذا الفن، وربطته بتاريخ مدينة القصير العريق، الذي يمتد لآلاف السنين.
ما هو فن "التربللة"؟
فن "التربللة" هو شكل من أشكال التعبير الفني الشعبي الأصيل، والذي يُعتقد أنه متجذر بعمق في التقاليد الشفهية والموسيقية لمدينة القصير والمناطق المحيطة بها. على الرغم من أنه ليس فنًا معروفًا على نطاق واسع خارج نطاق مجتمعه المحلي، إلا أنه يمثل جوهرًا للثقافة المحلية، غالبًا ما يتضمن عناصر من الأداء الصوتي، الإيقاعات الشعبية، وربما حركات تعبيرية تحكي قصصًا من الحياة اليومية أو التراث القديم للمنطقة. يمتاز هذا الفن بقدرته على التكيف والتوارث عبر الأجيال، ليحافظ على هويته في وجه التحديات الثقافية الحديثة.
ويعكس فن "التربللة"، بكلماته وألحانه، البيئة البحرية والصحراوية للمدينة، وكذلك التأثيرات الثقافية المتنوعة التي مرت بها القصير عبر تاريخها الطويل، من تأثيرات البدو الرحل إلى البحارة القادمين من شواطئ بعيدة. يهدف البرنامج إلى إبراز القيمة الفنية والتاريخية لهذا الفن، وتقديمه للجمهور الأوسع كجزء حيوي من التراث المصري.
القصير: مدينة الألف حكاية
تُعد مدينة القصير من أقدم وأهم المدن الساحلية في مصر على البحر الأحمر، فهي ليست مجرد ميناء، بل هي نقطة التقاء للحضارات ومرور للتجارة والحجاج عبر العصور. تاريخ المدينة غني بالأحداث والشخصيات التي تركت بصمتها:
- الفراعنة: كانت القصير (التي عُرفت قديمًا باسم "تاو" أو "ليوكوس ليمين" في العصر البطلمي والروماني) نقطة انطلاق للبعثات التجارية التعدينية إلى بلاد بونت في عهد الملكة حتشبسوت، حيث كانت السفن تبحر منها لجلب البخور والذهب والأحجار الكريمة.
- العصور الرومانية والإسلامية: استمرت القصير كمركز تجاري حيوي، ثم أصبحت ميناءً رئيسيًا للحجاج المتجهين إلى الأراضي المقدسة خلال العصور الإسلامية، مما أضاف بعدًا دينيًا وثقافيًا لتاريخها.
- الحملة الفرنسية: حتى حملة نابليون بونابرت على مصر، لعبت القصير دورًا استراتيجيًا، حيث كانت مسرحًا لبعض المواجهات وكانت نقطة اهتمام للقوات الفرنسية نظرًا لموقعها الجغرافي الهام.
"حكايات البيوت" ودورها في حفظ التراث
لا يقتصر البرنامج على عرض فن "التربللة" فحسب، بل يغوص في "حكايات البيوت" بمدينة القصير، وهي البيوت القديمة التي تحمل بين جدرانها قصص الأجيال المتعاقبة. هذه البيوت ليست مجرد هياكل معمارية، بل هي سجلات حية لتاريخ المدينة الاجتماعي والثقافي. فكل جدار، وكل زاوية، وكل نقش يحمل بصمة زمن مضى، ويروي حكاية عن حياة أهل القصير، عن مهنهم، عاداتهم، وأفراحهم وأتراحهم.
من بيوت التجار القديمة التي شهدت حركة التجارة النشطة، إلى منازل الصيادين والبدو التي تعكس بساطة الحياة وقربها من الطبيعة، تروي هذه "البيوت" جزءًا من السرد التاريخي الذي ربط القصير بالفراعنة مرورًا بنابليون. يُبرز البرنامج كيف أن هذه المباني التراثية تعد مصادر لا تقدر بثمن لفهم تطور المدينة وتأثير الحضارات المختلفة عليها، وكيف أنها تتفاعل مع الفنون المحلية لتشكل هوية ثقافية فريدة.
إن الربط بين فن "التربللة" و"حكايات البيوت" يؤكد على أن التراث الثقافي هو كل متكامل لا يمكن فصل مكوناته. فالفن يتغذى من البيئة والتاريخ، والبيئة والتاريخ يجدان تجسيدهما في أشكال الفن المختلفة، مما يضمن استمرارية الهوية الثقافية للمدينة ويثري فهمنا لمصر بتنوعها الفني والتاريخي.
أهمية توثيق الفنون التراثية
تكمن الأهمية القصوى لمثل هذه البرامج مثل "مصر تغني" في دورها في الحفاظ على التراث الثقافي غير المادي وتوثيقه. فكثير من هذه الفنون مهدد بالاندثار بسبب التغيرات الاجتماعية والاقتصادية وقلة الاهتمام من الأجيال الجديدة. من خلال تسليط الضوء عليها، يساهم البرنامج في:
- الحفاظ على الهوية: تعزيز الشعور بالهوية الثقافية والانتماء للأجيال الشابة.
- التوعية: تعريف الجمهور الواسع بقيمة هذه الفنون وأهميتها التاريخية والجمالية.
- التنشيط الثقافي والسياحي: جذب الانتباه إلى مناطق مثل القصير كوجهات ثقافية غنية بالتراث.
- التشجيع على الاستمرارية: تحفيز ممارسي هذه الفنون على مواصلة العطاء ونقلها للآخرين.
