تمظهر الشعر ووظيفته البلاغية في فن المقامة
تُعد المقامة أحد أهم الفنون الأدبية التي برزت في اللغة العربية وآدابها، وقد ارتبط هذا الفن منذ نشأته بأهداف نبيلة، أبرزها غرس القيم الأدبية واللغوية في نفوس النشء وطلاب العلم. تتميز المقامة بخصوصيتها الفريدة التي تمزج بين عدة ألوان أدبية، حيث تجمع في نسيجها بين النثر والشعر والسرد القصصي والعرض المسرحي.

من الناحية اللغوية، تتوزع دلالة كلمة "المقامة" على معنيين رئيسيين؛ فحيناً تشير إلى مجلس القبيلة أو مكان الاجتماع، وحيناً آخر تُطلق على الجماعة المجتمعة في هذا المجلس. كما تستخدم للدلالة على المحاضرة أو الحديث المسلّي، وبشكل عام، تدل الكلمة على حديث أو محاضرة يلقيها شخص في مجلس ما.
أما على الصعيد الاصطلاحي، فالمقامة هي فن أدبي ذو صياغة مسجوعة ومرصعة بالمحسنات البديعية، ولا يلتزم بطول معين. يستخدمها الكاتب لإبراز مهاراته وبراعته الفائقة، أو للتعبير عن آرائه في قضايا معينة، أو كستار لإظهار ميوله الظاهرة أو المكبوتة، أو حتى للتأكيد على مكانته الأدبية. وصفها بديع الزمان الهمذاني بأنها حديث قصير، ولم يطلق عليها اسم القصة أو الحكاية، مفضلاً صياغتها في قالب سردي مشوق يهدف إلى الإثارة، مما يجعلها أقرب إلى الحيلة الأدبية منها إلى القصة التقليدية.
نشأة المقامة وتطورها
لم يتوقف مفهوم المقامة عند حد معين، بل شهد تحولات وتوسعات في آفاق موضوعاتها، وتنامت مضامينها لتتخذ أشكالاً لغوية وأدبية تتسق وقوالبها الفنية مع متطلبات العصور التي ظهرت فيها. فمثلاً، اقتصرت مقامات الزمخشري على الوعظ والإرشاد، وكان حضور الشعر فيها محدوداً ويكاد يقتصر على الاستشهاد، كما أنها لم تعتمد على راوٍ أو بطل مركزي. وعلى نفس المنوال سار ابن الجوزي في مقاماته.
نظراً لأن الغاية الأسمى من فن المقامة كانت تعليم الطلاب وتهذيب الناشئة أدبياً ولغوياً، وحيث كان الشعر سيد الفنون الأدبية ومحط أنظار الأدباء والبلغاء وخبراء اللغة، بل وحتى العامة والخاصة، فقد كان لزاماً على مؤلف المقامة أن يستدعي الشعر إلى عالمه. كان هذا الاستدعاء ضرورياً لإبراز قيمة الشعر الأدبية وتجلي دلالاته البلاغية، ولذلك، شكل الشعر عماداً ومرتكزاً أساسياً لدى رواد هذا الفن، مثل الهمذاني والحريري.
دور الشعر المحوري في المقامة
بدأ بديع الزمان الهمذاني مقاماته بالشعر، كما يتضح في المقامة القريضية، واختتمها بالشعر أيضاً في المقامة البشرية، وهذا يؤكد الأهمية البالغة والحضور اللافت للشعر في فن المقامة. تناولت المقامة القريضية بعضاً من قضايا الشعر، وركزت على السمات الفنية والإبداعية لأكابر الشعراء في مختلف العصور الأدبية. فعلى لسان شخصيته المتخيلة أبي الفتح الإسكندري، يرصد الهمذاني خصائص الإبداع الأدبي لدى العديد من الشعراء، مثل وصفه لخصائص إبداع امرئ القيس في وصف الديار وتتبع الطير ومهارة وصف الخيل.
كما حمل الهمذاني شخصية أبي الفتح الإسكندري فيض أشعاره وجميل نظمه. فكان الهمذاني نفسه شاعراً ذا دربة وتمرس بفنون الشعر والأدب قبل تأليفه للمقامات، وكان يدرك قيمة الشعر وأهميته آنذاك، فلذلك أدمجه في مقاماته ليبرز جمالها وسحرها. وقد تضمنت هذه النصوص أبياتًا تعبر عن تحول الأحوال وتبدل العيش من السرور إلى النكران، مما يعكس براعة الهمذاني في التعبير عن تقلبات الدهر.
من إحدى وخمسين مقامة ألفها بديع الزمان الهمذاني، تجلى الشعر في معظمها، ولم تخلُ منه سوى خمس مقامات فقط هي: السجستانية، والشيرازية، والوصية، والمضيرية، والصيمرية. سيطر الشعر على ست وأربعين مقامة، وانفرد بكونه موضوعاً لها أو ركيزة تعبيرية في خمس مقامات أخرى، وهي: المقامة القريضية، والمقامة الشعرية، والمقامة العراقية، والمقامة الإبليسية، والمقامة البشرية.
في المقامة العراقية، التي بنى الهمذاني موضوعها وغايتها على الشعر، يجيب أبو الفتح الإسكندري على أسئلة وجهها إليه عيسى بن هشام عجز عن الإجابة عنها. فقد تضمنت المقامة طرحاً لمفاهيم شعرية معقدة، مثل إيراد بيت للأعشى صعب الحل يصف جودة الدراهم، ومثال آخر للمدح الذي لا يُعرف أهله مستشهداً ببيت للهذلي يشير إلى شخص كريم مجهول الهوية. تقوم المقامة العراقية بدورها التعليمي والأدبي، حيث ترسخ العديد من المفاهيم والمعارف الأدبية الشعرية لدى المتلقي، مما يثري عقله وينمي ذهنه.
يتوزع الدور الأدبي الذي تؤديه المقامات الشعرية على نمطين رئيسيين: أولهما، أن يكون الشعر من نظم مؤلف المقامة نفسه، حيث يولي المؤلف نصوصه عناية فائقة لإظهار براعته ومنافسة الآخرين، وفي الوقت نفسه يحاول ترسيخ القيم الجمالية والأدبية في وجدان المتلقي، حيث إن سياق المقامات تعليمي أدبي بامتياز، يلعب دوراً مهماً في تربية الذوق الأدبي. ومن ذلك أبيات للهمذاني على لسان أبي الفتح الإسكندري تصف بؤس الزمان الذي انقلب معادياً للأدب، كأنما الأدب أصبح سبباً لمصائب أهله. أما النمط الثاني، فهو استدعاء المؤلف لأشعار غيره للاستئناس بها وإدخالها في نسيج الحكاية، لإضفاء بريق الجمال الشعري عليها، إضافة إلى إثراء المعرفة الأدبية. وهذا ما فعله في المقامة العراقية، وفي المقامة الشعرية أيضاً، حيث يشير إلى بيت للبكري يصف ديناراً صادقاً لكنه ينقصه شيء ما، مع إشارة متناقضة إلى كرم أصحابه.
بلاغة الشعر وأغراضه في مقامات الحريري
احتل الشعر في مقامات الحريري حيزاً كبيراً على مستوى الموضوع والعنوان والتشكيل والطرح. بل مارس الحريري في مقاماته ألعاباً شعرية معقدة كانت مضماراً للسباق بين حاذقي اللغة والأدب. ففي المقامة الشعرية، تمحورت بنيتها الأدبية وارتكزت على الشعر موضوعاً وغاية وعنواناً. حاول الحريري من خلالها، عبر فضائه التخييلي، عرض قضية السرقات الشعرية، حيث ادّعى أبو زيد السروجي أمام القاضي على ابنه واتهمه بسرقة الشعر. انتصف الغلام لنفسه، وأصر الأب على رأيه، ولم يكن أمام القاضي إلا اختبارهما، فاقترح عليهما أن يتباريا في نظم قصيدة واحدة بيتاً فبيتاً، يبدأ السروجي ويليه الغلام مكملاً، وهكذا حتى اكتمل نظم الأبيات وتناسق، وتجادلت الأبيات حول الإعجاب بالنفس والمدح المتبادل مع إشارة إلى حفظ الود.
كانت المقامة تستدعي الشعر وأغراضه المشهورة بها، أو بالأحرى، عندما تعجز المقامة عن التعبير عن غرض معين، وقد خاض الشعر غماره من قبل، فإنها تستعين بالشعر لتفي بالغرض. فـ المدح غرض شعري أصيل، ولا يمتلك أي فن أدبي آخر القدرة التي يمتلكها الشعر تجاه هذا الغرض. وهذا ما فعله الحريري في المقامة الدينارية، فحينما أراد مدح الدينار، استدعى الشعر وغرضه المتأصل فيه، ليؤدي الشعر مهمته الوظيفية والإبداعية في آنٍ واحد، فجاءت الأبيات تصف الدينار بأنه عملة كريمة صفراء اللون، تجوب الآفاق وتحمل سر الغنى وتجلب النجاح والمحبة.
لم يقتصر الأمر على المديح كغرض شعري في مقامات الحريري، فقد استدعى أغراضاً شعرية أخرى مثل الهجاء. ففي المقامة الدينارية أيضاً، بعد أن نال أبو زيد السروجي الدينار بمدحه، عُرض عليه أن ينال ديناراً آخر إن استطاع هجاءه وذمه. فأنشد أبياتاً تُصور الدينار بصفات متناقضة تجمع بين زينة العاشق ومعشوقه، ولكنها تحذر من أن حبه يدفع للمنكرات، وأنه سبب للسرقة والظلم.
كما مارس الحريري في مقاماته ألعاباً شعرية معقدة تتحدى براعة أهل اللغة والأدب. في المقامة الثالثة والعشرين، التي أطلق عليها اسم "الشعرية"، بنى الأبيات على قافية واحدة، ولكن اللعبة التي مارسها تتمثل في بث قافية داخلية في كل بيت تتجلى بعد حذف القافية الأولى مع ثلثي الشطر الثاني، فيتغير الوزن والإيقاع معاً، مع احتفاظ البيت الشعري بموضوعه ومضمونه. هذه اللعبة الشعرية كانت مضمرة في ذات البطل وفي فضاء التخييل عند الحريري ليمارس حرفة الكدية/الشحاذة باختلاق قضية السرقات الشعرية بينه وبين الفتى. فمثلاً، جاءت أبيات تصف الدنيا بأنها فخ للموت ومصدر للأكدار، وأنها دار تضحك يوماً وتبكي آخر، لا تنتهي غاراتها ولا يُفتدى أسيرها. وعند تطبيق هذه اللعبة، يتحول الوزن العروضي وتتضح قافية ثانية موحدة تحفظ كيان البيت.
استمرارية فن المقامة وتحدياتها المعاصرة
اتخذت المقامة على مر تاريخها من الشعر وسيلة تعبيرية تؤدي وظيفتها النوعية تحت مظلتها. وقد ظلت المقامة متربعة على عروشها منذ أن أسس لها بديع الزمان الهمذاني، مروراً بالعصرين المملوكي والعثماني، وصولاً إلى العصر الحديث مع أدباء مثل اليازجي وأحمد فارس الشدياق. تارة تخفى الشعر وتارة يتجلى في أعمال كتاب المقامات، وتغيرت أنماطه ووظائفه. فمن عصر الكدية والشحاذة، حيث كان الشعر موضوعاً وغاية بحد ذاته، إلى عصر الصنعة والتأنق اللغويين بدءاً من العصر المملوكي، حيث مالت المقامة إلى الاستغراق في الجمال اللفظي. من هنا، أصبح حضور الشعر جمالياً، أشبه بالتطريز على قماشة المقامة، وهو ما نلحظه في مقامات السيوطي التي تغير شكلها وموضوعها واتخذت مساراً مغايراً.
تظل المقامة حاضرة في تاريخنا وحاضرنا كظاهرة أدبية نوعية ما زلنا نستلهم من ينابيعها، حتى وإن خفت وهجها قليلاً. لذا، يبرز الاهتمام بإحياء هذا الفن وتحفيز الكتاب والنشء على ممارسته قراءة وإنتاجاً، بما يتناسب مع متطلبات عصرنا. ويتطلب ذلك إعادة طرحه على مائدة النقد بمنظور حداثي، لإعادة التعرف على أنماطه التركيبية وأساليبه الجمالية، بما قد يسهم في إشراق شمس المقامة من جديد في المشهد الأدبي المعاصر.





