جدل واسع حول تصوير كليوباترا: اتهامات بتزييف التاريخ وإثارة الانقسام
أثار عرض الفيلم الوثائقي الدرامي "الملكة كليوباترا" على منصة نتفليكس في أبريل ومايو 2023 عاصفة من الجدل في مصر والعديد من الدول العربية، بعد أن قدم العمل الملكة المصرية الشهيرة ببشرة سمراء، مما أطلق اتهامات واسعة للمنصة بتزييف التاريخ وتبني أجندات أيديولوجية تهدف إلى فصل المصريين عن تاريخهم العريق.

خلفية الأزمة وتفاصيلها
اندلعت الأزمة فور صدور الإعلان الترويجي للمسلسل الذي أنتجته جادا بينكيت سميث، حيث ظهرت الممثلة البريطانية أديل جيمس، وهي من أصول إفريقية، في دور الملكة كليوباترا السابعة. ارتكز الجدل على حقيقة تاريخية ثابتة بأن كليوباترا تنحدر من سلالة البطالمة المقدونية اليونانية، التي حكمت مصر بعد وفاة الإسكندر الأكبر. ورغم أنها ولدت في مصر، إلا أن المصادر التاريخية والآثار المكتشفة، بما في ذلك العملات والتماثيل، تشير إلى أنها كانت ذات ملامح هيلينستية (يونانية) وبشرة فاتحة، وهو ما يتناقض بشكل صارخ مع التصوير الذي قدمه العمل.
اعتبر العديد من الخبراء والمؤرخين أن هذا التصوير يندرج ضمن أفكار حركة "المركزية الإفريقية" (Afrocentrism)، التي تسعى إلى إعادة كتابة التاريخ من منظور ينسب الحضارة المصرية القديمة إلى أصول إفريقية جنوب الصحراء، وهو طرح يرفضه أغلب علماء المصريات بشدة.
ردود فعل رسمية وشعبية غاضبة
لم يقتصر الأمر على النقاشات في وسائل التواصل الاجتماعي، بل اتخذ أبعادًا رسمية. أصدرت وزارة السياحة والآثار المصرية بيانًا حاسمًا أكدت فيه على أن الملكة كليوباترا كانت ذات بشرة فاتحة وملامح هيلينستية، مستندة إلى الأدلة الأثرية. ووصف الدكتور مصطفى وزيري، الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار آنذاك، العمل بأنه "تزييف صارخ للتاريخ المصري".
على الصعيد القانوني، تقدم عدد من المحامين المصريين بدعاوى قضائية تطالب بحجب منصة نتفليكس في مصر ومنع عرض المسلسل، معتبرين أنه يروج لمعلومات مضللة ويمثل إساءة للتراث الوطني. أما شعبيًا، فقد أطلق المستخدمون على منصات التواصل الاجتماعي حملات واسعة لمقاطعة المنصة، مصحوبة بوسوم تندد بما اعتبروه سرقة وتشويهًا متعمدًا لتاريخهم.
دفاع المنتجين ومنظور مغاير
في مقابل هذه الانتقادات، دافع صناع العمل عن اختيارهم الفني. صرحت المخرجة تينا غرافي بأن "الأصول العرقية لكليوباترا ليست هي النقطة المهمة"، مشيرة إلى أن الهدف كان تمثيل النساء ذوات البشرة السمراء. وذكرت المنتجة جادا بينكيت سميث أن اختيار الممثلة كان قرارًا يهدف إلى "إظهار قصة كليوباترا من منظور جديد" والتعبير عن فكرة أن هويتها كانت موضوع نقاش. هذا الطرح قابله المؤرخون بالرفض، مؤكدين أن هوية كليوباترا اليونانية ليست محل شك أكاديمي جاد.
الأثر وأهمية القضية
تجاوزت قضية مسلسل "الملكة كليوباترا" حدود كونها مجرد عمل فني لتتحول إلى قضية رأي عام تمس الهوية الوطنية والتاريخ. لقد سلطت الضوء على الحساسية الشديدة التي يتعامل بها المصريون مع تاريخهم القديم، الذي يعتبرونه جزءًا أساسيًا من هويتهم المعاصرة. كما أظهرت النقاشات مدى تأثير المنصات الرقمية العالمية في تشكيل السرديات التاريخية وقدرتها على إثارة انقسامات ثقافية عميقة. وفي النهاية، عكس هذا الموقف رغبة مجتمعية قوية في حماية الموروث التاريخي من التشويه أو الاستغلال الأيديولوجي، وهو ما يفسر حدة رد الفعل الذي وُصف بأنه "موقف حدث ونرجو ألا يتكرر".




