خط دوراند: جذور النزاع الحدودي بين أفغانستان وباكستان وتأثيره على استقرار جنوب آسيا
يمثل النزاع الحدودي بين أفغانستان وباكستان حول خط دوراند قضية تاريخية معقدة لا تزال تلقي بظلالها على العلاقات الثنائية والاستقرار الإقليمي في جنوب آسيا. ورغم مرور أكثر من قرن على ترسيمه، يبقى هذا الخط مصدرًا للتوتر المستمر والاشتباكات المتقطعة، وقد ازدادت حدته بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة، خاصة بعد عودة حركة طالبان إلى السلطة في كابول عام 2021، مما يضيف طبقة جديدة من التعقيد إلى ديناميكيات المنطقة.

خلفية تاريخية للنزاع
تعود جذور القضية إلى عام 1893، عندما وقع السير مورتيمر دوراند، ممثل الهند البريطانية، اتفاقية مع أمير أفغانستان آنذاك، عبد الرحمن خان، لترسيم حدود نفوذهما. أدى هذا الاتفاق إلى إنشاء خط بطول حوالي 2670 كيلومترًا، والذي أصبح يُعرف لاحقًا بـ خط دوراند. كان الهدف الأساسي للبريطانيين هو إنشاء منطقة عازلة لحماية ممتلكاتهم في الهند من التوسع الروسي المحتمل.
المشكلة الأساسية تكمن في أن هذا الخط قسم بشكل تعسفي مناطق سكن قبائل البشتون، أكبر مجموعة عرقية في أفغانستان وثاني أكبر مجموعة في باكستان، بين دولتين. ومنذ تأسيس باكستان عام 1947، رفضت جميع الحكومات الأفغانية المتعاقبة الاعتراف رسميًا بخط دوراند كحدود دولية، بحجة أن الاتفاقية فُرضت على حاكم ضعيف ولم تكن تهدف إلى أن تكون ترتيبًا دائمًا. في المقابل، تعتبر باكستان هذا الخط حدودًا دولية شرعية ورثتها عن الإمبراطورية البريطانية، وتؤكد على شرعيتها بموجب القانون الدولي.
تصاعد التوترات والتطورات الأخيرة
شهدت العلاقات بين البلدين تدهورًا كبيرًا في الآونة الأخيرة. فبعد سيطرة طالبان على أفغانستان في أغسطس 2021، ساد توقع مبدئي في إسلام أباد بأن وجود حكومة صديقة في كابول قد يساعد في تهدئة الحدود. إلا أن ما حدث كان العكس تمامًا، حيث تبنت طالبان الأفغانية نفس الموقف القومي الرافض للحدود، مما أدى إلى وقوع اشتباكات متكررة بين قواتها وقوات حرس الحدود الباكستانية.
أحد أبرز مظاهر التوتر هو مشروع باكستان لبناء سياج على طول الحدود بأكملها لمنع التسلل والهجمات عبر الحدود. وقد عارضت طالبان هذا المشروع بشدة، وقامت قواتها في عدة مناسبات بإزالة أجزاء من السياج، معتبرة إياه محاولة لترسيخ تقسيم أراضي البشتون. وتفاقمت الأزمة بسبب قضية حركة تحريك طالبان باكستان (TTP)، وهي جماعة مسلحة تشن هجمات داخل باكستان وتتهم إسلام أباد كابول بتوفير ملاذ آمن لها على الأراضي الأفغانية، وهو ما تنفيه حكومة طالبان.
في أواخر عام 2023، اتخذت باكستان خطوة تصعيدية أخرى تمثلت في ترحيل مئات الآلاف من المهاجرين الأفغان غير المسجلين، في قرار أثار انتقادات دولية وزاد من تدهور العلاقات الإنسانية والسياسية بين الجارتين.
التأثير على التوازن الإقليمي
إن النزاع حول خط دوراند لا يقتصر على كونه خلافًا ثنائيًا، بل يمتلك أبعادًا إقليمية واسعة تؤثر على ميزان القوى في جنوب آسيا. لطالما نظرت باكستان إلى أفغانستان باعتبارها "عمقًا استراتيجيًا" في مواجهة منافستها الإقليمية، الهند. ومع ذلك، فإن عدم الاستقرار على حدودها الغربية يقوض هذه الاستراتيجية ويستنزف مواردها الأمنية.
من جانبها، غالبًا ما تدعم الهند موقف أفغانستان الرافض لخط دوراند كوسيلة للضغط على باكستان. كما أن القوى الدولية، بما في ذلك الصين، تراقب الوضع عن كثب، حيث يهدد عدم الاستقرار في المنطقة مشاريع استراتيجية مثل الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني (CPEC)، الذي يعد جزءًا أساسيًا من مبادرة الحزام والطريق الصينية. وعليه، فإن أي تصعيد كبير على طول الحدود الأفغانية الباكستانية يمكن أن يكون له تداعيات تتجاوز البلدين لتشمل المنطقة بأكملها.
في الختام، يظل خط دوراند جرحًا تاريخيًا لم يندمل، يغذي انعدام الثقة والعداء بين دولتين مسلمتين جارتين. ومع استمرار المواقف المتصلبة من كلا الجانبين وغياب أي آلية فعالة لحل النزاع، من المرجح أن يبقى هذا الصراع مصدرًا رئيسيًا لعدم الاستقرار في واحدة من أكثر مناطق العالم تقلبًا من الناحية الجيوسياسية.




