في خطوة تعكس حيوية المشهد الثقافي الليبي المتجدد، استضافت العاصمة طرابلس، في يناير 2024، معرضًا فنيًا بارزًا تحت عنوان "دواية". يمثل هذا المعرض مبادرة فنية فريدة تهدف إلى إقامة حوار بصري بين عراقة التراث العربي وروح الحداثة المعاصرة، وذلك عبر التوظيف المبتكر لفن الحروفيات.

المعرض، الذي جذب اهتمامًا واسعًا من الفنانين والنقاد والجمهور على حد سواء، لم يكن مجرد عرض لأعمال فنية، بل كان بمثابة دعوة للتأمل في العلاقة بين الماضي والحاضر، وكيف يمكن للفن أن يكون جسرًا لربط الأجيال والثقافات المختلفة. وقد نجح معرض "دواية" في تسليط الضوء على قدرة الفن الليبي على التفاعل مع القضايا العالمية مع الحفاظ على هويته الأصيلة.
المعرض وأهدافه
هدف معرض "دواية" الأساسي إلى إبراز الجوانب الجمالية والفلسفية لفن الحروفيات، وهو تيار فني عربي معاصر يستخدم الخط العربي والحروف كعناصر بصرية أساسية في التكوينات الفنية، متجاوزًا وظيفته اللغوية المعتادة. وقد سعى المعرض إلى:
- تشجيع الفنانين المحليين: توفير منصة للفنانين الليبيين لعرض إبداعاتهم والتعبير عن رؤاهم الفنية.
- إعادة إحياء التراث: إعادة تقديم الخط العربي كشكل فني حيوي ومتطور، وليس مجرد موروث تاريخي.
- تعزيز الحوار الثقافي: فتح آفاق جديدة للنقاش حول الهوية الثقافية في ظل التغيرات العالمية المتسارعة.
- ربط الأصالة بالمعاصرة: إظهار كيف يمكن للفنانين دمج التقنيات والمفاهيم الفنية الحديثة مع الأشكال التقليدية.
فن الحروفيات: جسر بين الأصالة والمعاصرة
يعتبر فن الحروفيات حركة فنية ظهرت في العالم العربي في منتصف القرن العشرين، وتتميز بالاعتماد على الحرف العربي كعنصر تشكيلي بحت، يتجاوز معناه اللغوي المباشر ليصبح رمزًا بصريًا ذا دلالات جمالية وروحية عميقة. وقد تمكن فنانو الحروفيات من تحرير الحرف من قيوده النصية، ودمجه في لوحات تجريدية أو شبه تجريدية، مستلهمين في ذلك من جماليات الخط العربي الإسلامي العريق، وفي الوقت نفسه من تيارات الفن الحديث كالتجريدية والتعبيرية.
في معرض "دواية"، عرضت أعمال فنية متنوعة تعكس هذا التوجه، حيث قدم فنانون ليبيون لوحات ومنحوتات وتجهيزات فنية استخدموا فيها الحرف العربي بطرق مبتكرة، سواء من خلال تكراره، أو تشويهه، أو دمجه مع عناصر بصرية أخرى، لخلق رسائل جديدة تعبر عن مشاعرهم وتجاربهم في سياق المجتمع الليبي المعاصر.
سياق الفن والثقافة في ليبيا
تكتسب المبادرات الثقافية والفنية في ليبيا أهمية خاصة بعد سنوات من التحديات. فمع استقرار نسبي تشهده البلاد، أصبح هناك اهتمام متزايد بإعادة إحياء الحياة الثقافية والفنية كجزء أساسي من عملية التعافي الوطني وبناء المستقبل. تلعب المعارض مثل "دواية" دورًا حيويًا في:
- دعم الهوية الثقافية: مساعدة المجتمع على إعادة اكتشاف والاحتفاء بتراثه الغني.
- توفير منافذ للتعبير: منح الفنانين الشباب والمخضرمين مساحة للتعبير عن ذواتهم وقضايا مجتمعهم.
- تعزيز التماسك الاجتماعي: الفن غالبًا ما يكون وسيلة لجمع الناس من خلفيات مختلفة وتعزيز الحوار.
- التواصل مع العالم الخارجي: عرض الإبداع الليبي وفتح قنوات للتبادل الثقافي مع الدول الأخرى.
التأثير والأهمية
لقد ترك معرض "دواية" بصمة واضحة في المشهد الثقافي الليبي، ليس فقط لجودة الأعمال المعروضة، بل أيضًا للرسالة التي حملها. فهو يمثل نموذجًا لكيفية يمكن للفن أن يكون أداة للتعبير عن الأصالة والتطلع نحو المستقبل في آن واحد. عبر فن الحروفيات، أظهر المعرض أن التراث ليس مجرد ماضٍ يُحتفى به، بل هو مصدر إلهام متجدد يمكن أن يشكل الأساس لإبداعات معاصرة وذات صلة. كما أنه أكد على الدور المحوري للفنانين في صياغة الرؤى الجديدة لمجتمعاتهم وتقديم منظور فريد لتحديات العصر وفرصه.





