متحف اللوفر: سجل من السرقات الجريئة في وضح النهار، بدءاً من اختفاء الموناليزا
يُعدّ متحف اللوفر في باريس، رمزاً عالمياً للفن والتاريخ، وموطناً لمجموعات لا تقدر بثمن تجذب ملايين الزوار سنوياً. ومع ذلك، لا يقتصر تاريخ هذا الصرح العريق على قصص الإنجازات الفنية والجمالية فحسب، بل يتخلله أيضاً سجل من السرقات الجريئة التي وقعت أحياناً في وضح النهار، متحديةً جميع التدابير الأمنية ومثيرةً دهشة العالم. لعل أشهر هذه الحوادث وأكثرها درامية هو اختفاء تحفة ليوناردو دافنشي، الموناليزا، في أوائل القرن العشرين، والذي شكّل نقطة تحول في تاريخ أمن المتاحف.

سرقة الموناليزا: صدمة القرن العشرين
في صباح يوم 21 أغسطس 1911، استيقظ العالم على خبرٍ هزّ الأوساط الثقافية والإعلامية: اختفاء لوحة الموناليزا من متحف اللوفر. لم يكن مجرد سرقة عادية، بل كانت جريمة اعتبرت الأكثر جرأة في تاريخ الفن الحديث. وقد غابت اللوحة عن الأنظار لما يقرب من عامين وربع، مثيرةً حالة من الذعر والتحقيقات المكثفة التي طالت حتى شخصيات فنية شهيرة مثل بابلو بيكاسو، الذي استُدعي للاستجواب في مرحلة ما.
تفاصيل هذه السرقة كشفت عن ثغرات أمنية صادمة في ذلك الوقت. فالجاني، فينسينزو بيروجيا، وهو عامل إيطالي كان يعمل سابقاً في اللوفر بصفة فني زجاج، تمكّن من الاختباء داخل المتحف ليلة الأحد 20 أغسطس 1911. في صباح اليوم التالي، بعد مغادرة معظم الحراس، ببساطة نزع اللوحة من إطارها ولفّها في معطفه، ثم غادر المتحف دون أن يثير أي شبهة. ولم يُكتشف غياب اللوحة إلا بعد ظهر يوم 22 أغسطس، عندما لاحظ رسام أن الجدار الذي كانت تعرض عليه فارغ.
كان دافع بيروجيا، كما ادعى لاحقاً، وطنياً بحتاً، معتقداً أن اللوحة يجب أن تعود إلى إيطاليا. وقد احتفظ بها في شقته الباريسية طوال هذه المدة، محاولاً بيعها لتاجر فنون في فلورنسا في ديسمبر 1913، حيث جرى القبض عليه وإعادة اللوحة إلى اللوفر، لتُستقبل بحفاوة بالغة وتعود لمكانها في يناير 1914. لم تكن هذه الحادثة مجرد جريمة، بل كانت درساً قاسياً حول أهمية الأمن في صيانة التراث العالمي.
حوادث أخرى وتحديات أمنية
على الرغم من الشهرة الطاغية لسرقة الموناليزا، فإن سجل اللوفر يتضمن حوادث أخرى، وإن كانت أقل ضجة. هذه الحوادث، سواء كانت ناجحة أو محاولات فاشلة، تُبرز التحديات المستمرة التي تواجه المتاحف الكبرى في حماية كنوزها. المتحف، بحجمه الهائل ومجموعاته المتنوعة التي تمتد عبر آلاف السنين، يظل هدفاً محتملاً للمجرمين.
- التهديدات الداخلية: مثل حالة بيروجيا، أظهرت السرقات أن الموظفين السابقين أو الحاليين قد يشكلون خطراً كبيراً، نظراً لمعرفتهم بالمنشأة وتفاصيلها الأمنية.
- المساحة الشاسعة والعدد الهائل من الزوار: مع استقبال ملايين الزوار سنوياً، يصبح رصد كل تحرك أمراً بالغ الصعوبة، مما يوفر فرصاً للمخالفين للاندساس أو استغلال الازدحام.
- التكنولوجيا المتطورة: في العصر الحديث، تطورت أساليب السرقة كما تطورت وسائل الحماية، مما يتطلب استثماراً مستمراً في أحدث التقنيات الأمنية.
لقد شهدت السنوات التالية لسرقة الموناليزا، ومن ثم على مدى عقود، تعزيزات كبيرة في أنظمة أمن المتحف. فما كان يُعدّ كافياً في بداية القرن العشرين، من حراس قليلين وتدابير بسيطة، أصبح اليوم منظومة معقدة تتضمن كاميرات مراقبة متطورة، أجهزة إنذار حساسة، أجهزة استشعار للحركة، بالإضافة إلى طاقم أمني مدرب بشكل مكثف.
أهمية الحماية وتأثيرها على التراث العالمي
تُعدّ هذه السرقات، ولا سيما حادثة الموناليزا، بمنزلة تذكير صارخ بالثمن الباهظ الذي يمكن أن يدفعه العالم جراء الإهمال أو القصور الأمني. فالفنون والآثار ليست مجرد ممتلكات، بل هي جزء لا يتجزأ من الذاكرة الإنسانية والتراث الثقافي المشترك، وعليه فإن حمايتها مسؤولية عالمية. وقد أدت هذه الحوادث إلى:
- تحسينات أمنية عالمية: دفعت المتاحف حول العالم إلى إعادة تقييم وتجديد بروتوكولاتها الأمنية، واعتماد تقنيات أكثر حداثة.
- التعاون الدولي: تعزيز التعاون بين وكالات إنفاذ القانون والمنظمات الدولية مثل الإنتربول لمكافحة الاتجار غير المشروع بالآثار والمسروقات الفنية.
- رفع الوعي العام: زيادة وعي الجمهور بأهمية الحفاظ على التراث الثقافي والدور الذي يمكن أن يلعبه الأفراد في الإبلاغ عن أي نشاط مشبوه.
في الختام، يظل متحف اللوفر، بتاريخه الغني بالروائع وحوادث السرقة، قصة مستمرة عن النضال بين الرغبة في عرض الفن للعالم والحاجة الماسة لحمايته. فكل سرقة، وإن كانت نادرة، تترك بصمتها وتُسهم في تشكيل مستقبل الأمن في المؤسسات الثقافية الكبرى، مؤكدة أن اليقظة الدائمة هي الثمن الذي يجب دفعه للحفاظ على هذه الكنوز للأجيال القادمة.




