مخاطر الجلوس الممتد: هل تكفي الرياضة لدرء أضراره الصحية؟
مع تسارع وتيرة الحياة العصرية وتزايد الاعتماد على التكنولوجيا، أصبح الجلوس لفترات طويلة جزءاً لا يتجزأ من روتين ملايين الأفراد حول العالم. وفي حين يُشدد الخبراء باستمرار على أهمية ممارسة النشاط البدني والرياضة بانتظام، تبرز دراسات حديثة، نُشرت في مطلع العام الجاري، لتحذر من أن مجرد ممارسة الرياضة قد لا يكون كافياً لمواجهة الآثار السلبية للجلوس الممتد على الصحة. هذه الأبحاث تسلط الضوء على ما يُعرف بـ "متلازمة الجلوس"، والتي تشير إلى مجموعة من المخاطر الصحية التي تنشأ عن قلة الحركة لساعات طويلة، حتى لو كان الشخص يمارس التمارين الرياضية بانتظام في أوقات أخرى.

فهم ظاهرة الجلوس المطول
تغيرت طبيعة العمل والحياة بشكل جذري خلال العقود الماضية، فتحولت العديد من الوظائف من العمل البدني إلى المهام المكتبية التي تتطلب الجلوس لساعات طويلة أمام الشاشات. يضاف إلى ذلك، تزايد وقت الفراغ الذي يقضيه الأفراد في أنشطة تتطلب الجلوس، مثل مشاهدة التلفاز أو استخدام الأجهزة اللوحية والهواتف الذكية. وقد أظهرت الإحصائيات أن الشخص البالغ في الدول المتقدمة قد يقضي ما يصل إلى 9-10 ساعات يومياً في وضع الجلوس. هذا النمط من الحياة يتناقض بشكل كبير مع تصميم الجسم البشري الذي تطور للحركة والتنقل المستمر.
المشكلة لا تكمن فقط في عدم ممارسة الرياضة، بل في طبيعة الجلوس نفسه. فالجسم في وضعية الجلوس الطويل يدخل في حالة من الخمول الأيضي، حيث تتباطأ العديد من العمليات الحيوية. هذا المفهوم يفسر جزئياً ظاهرة "الرياضي الكسول" (Active Couch Potato)، وهو شخص يلتزم بمواعيد تدريبه الرياضي لكنه يقضي معظم ساعات يومه المتبقية في الجلوس، مما يجعله عرضة لمخاطر صحية لا تقل عن خطر الأفراد غير النشيطين تماماً.
الآثار الصحية المتعددة للجلوس الممتد
تتجاوز تأثيرات الجلوس الطويل مجرد آلام الظهر أو تصلب الرقبة، لتشمل مجموعة واسعة من المخاطر الصحية المزمنة التي تؤثر على مختلف أجهزة الجسم:
- مخاطر القلب والأوعية الدموية: يرتبط الجلوس الممتد بزيادة خطر الإصابة بأمراض القلب التاجية والسكتة الدماغية. فقلة الحركة تؤثر سلباً على تدفق الدم وتزيد من فرص تراكم الدهون في الشرايين، بالإضافة إلى ارتفاع ضغط الدم والكوليسترول الضار.
 - اضطرابات التمثيل الغذائي: يؤدي الخمول الأيضي المصاحب للجلوس لفترات طويلة إلى انخفاض حساسية الجسم للأنسولين، مما يزيد من خطر الإصابة بمرض السكري من النوع الثاني. كما أنه يساهم في زيادة مستويات السكر في الدم بعد الوجبات وتخزين الدهون، خاصة حول منطقة البطن.
 - مشاكل الجهاز العضلي الهيكلي: يسبب الجلوس المستمر ضعفاً في عضلات الجذع والوركين، وقصر في عضلات الفخذين، مما يؤدي إلى آلام أسفل الظهر ومشاكل في المفاصل. كما أنه يضعف كثافة العظام على المدى الطويل.
 - تأثير على الصحة النفسية: تشير بعض الدراسات إلى وجود علاقة بين الجلوس الطويل وزيادة خطر الإصابة بالقلق والاكتئاب. قد يكون ذلك بسبب تأثير قلة الحركة على المواد الكيميائية في الدماغ المسؤولة عن تنظيم المزاج، أو بسبب العزلة الاجتماعية المرتبطة بالأنشطة التي تتطلب الجلوس.
 - زيادة خطر الإصابة بالسرطان: أظهرت الأبحاث أن الجلوس لساعات طويلة قد يزيد من خطر الإصابة بأنواع معينة من السرطان، مثل سرطان القولون والمستقيم، وسرطان الثدي، وسرطان المبيض.
 
لماذا لا تكفي الرياضة وحدها؟
السؤال المحوري الذي تطرحه الدراسات هو: لماذا لا تستطيع ساعات قليلة من التمارين الرياضية الأسبوعية محو الآثار السلبية للجلوس لثماني ساعات أو أكثر يومياً؟ يكمن الجواب في أن ميكانيكيات تأثير الجلوس المطول على الجسم تختلف عن تلك التي تعالجها التمارين الرياضية. فالنشاط البدني يعمل على تحسين كفاءة القلب والرئتين وبناء العضلات، لكنه لا يلغي بشكل كامل التغيرات الأيضية التي تحدث في الجسم أثناء فترات الخمول الطويلة.
عند الجلوس، تتباطأ عملية حرق الدهون، وتقل كفاءة الإنزيمات المسؤولة عن تكسير الدهون الثلاثية. كما أن العضلات الكبيرة، خاصة في الساقين، تكون خاملة، مما يقلل من استخدام الجلوكوز ويؤثر على تنظيم مستويات السكر في الدم. هذا التباطؤ المستمر، حتى وإن تخللته جلسات تدريب مكثفة، يترك بصمة سلبية على الأيض العام للجسم، مما يجعل الجلوس الممتد عامل خطر مستقلاً لا يمكن للرياضة وحدها أن تلغيه تماماً.
توصيات وحلول عملية
لمواجهة مخاطر الجلوس المطول، يوصي الخبراء بتبني نهج شامل يجمع بين ممارسة الرياضة المنتظمة وتقليل وقت الجلوس بشكل عام. لا يتعلق الأمر بالضرورة بممارسة المزيد من التمارين، بل بزيادة الحركة على مدار اليوم:
- دمج الحركة في الروتين اليومي: يُنصح بالنهوض والتحرك لمدة 5-10 دقائق كل 30 دقيقة من الجلوس. يمكن أن يشمل ذلك المشي قليلاً، أو الوقوف والتمدد، أو صعود الدرج بدلاً من المصعد. هذه "فترات الحركة الصغيرة" (Movement Snacks) تحدث فرقاً كبيراً في تنشيط الدورة الدموية والأيض.
 - أماكن العمل النشطة: تشجع العديد من الشركات الآن على استخدام المكاتب القائمة أو المكاتب المتحركة التي تسمح للموظفين بالعمل واقفين أو أثناء المشي على جهاز المشي البطيء. كما يمكن عقد اجتماعات المشي بدلاً من الجلوس في قاعة الاجتماعات.
 - استخدام التكنولوجيا المساعدة: يمكن استخدام تطبيقات الهواتف الذكية أو الساعات الذكية لتذكير الأفراد بالنهوض والحركة على فترات منتظمة.
 - تغيير عادات أوقات الفراغ: بدلاً من قضاء المساء جالساً أمام التلفاز، يمكن البحث عن أنشطة أكثر حركة مثل المشي في الطبيعة، أو ممارسة الهوايات التي تتطلب الوقوف، أو اللعب النشط مع الأطفال.
 
في الختام، بينما تظل الرياضة ركيزة أساسية للصحة الجيدة، فإن الرسالة الواضحة التي تؤكدها الأبحاث الحديثة هي أن الحركة جزء لا يتجزأ من الصحة اليومية. يتطلب الأمر وعياً وتغييراً في أنماط الحياة لدمج النشاط البدني الخفيف على مدار اليوم، لا في ساعات التمرين المخصصة فحسب، لضمان درء الأضرار الخفية للجلوس الممتد والحفاظ على صحة ورفاهية الجسم على المدى الطويل.





