مصمم عربي يتألق في باريس بعد رحلة لجوء: نموذج للصمود والإبداع
في مطلع شهر فبراير 2024، شهدت العاصمة الفرنسية باريس حدثًا تاريخيًا في عالم الموضة، حيث أُعلنت نتائج الدورة الافتتاحية لجائزة الموضة من العالم العربي لعام 2025. وقد توج المصمم السوري الشاب مثنى الحاج علي بجائزة "التميز والإبداع" المرموقة، في تكريم يعكس ليس فقط موهبته الفذة ولكن أيضًا رحلته الملهمة من اللجوء إلى منصات الأزياء العالمية. هذه الجائزة، التي أطلقها معهد العالم العربي في باريس بالتعاون مع المعهد الفرنسي للأزياء، تهدف إلى الاحتفاء بالإبداع ودعم المصممين الموهوبين المنحدرين من العالم العربي، وتسليط الضوء على إسهاماتهم الفريدة في مشهد الموضة العالمي.

جائزة الموضة من العالم العربي: جسر بين الثقافات
تعتبر جائزة الموضة من العالم العربي لعام 2025 مبادرة رائدة من معهد العالم العربي (Institut du Monde Arabe - IMA)، المعروف بجهوده في تعزيز التفاهم الثقافي بين فرنسا والعالم العربي. بالشراكة مع المعهد الفرنسي للأزياء (Institut Français de la Mode - IFM)، أحد أبرز المؤسسات التعليمية في مجال الموضة عالميًا، يسعى هذا البرنامج إلى كشف النقاب عن المواهب الواعدة وتوفير منصة عالمية لهم. تأتي هذه الجائزة في وقت تتزايد فيه أهمية التنوع والشمولية في صناعة الأزياء، وتطمح إلى إبراز الجمالية والتراث الغني للأزياء العربية، التي غالبًا ما تكون أقل تمثيلاً في الدوائر الدولية مقارنة بنظيراتها الغربية. تميزت عملية التحكيم بالصرامة والشفافية، حيث قام خبراء بارزون من الصناعة بتقييم مئات الطلبات بناءً على الابتكار، الأصالة، الجودة، والقدرة على دمج التراث الثقافي بلمسة عصرية.
رحلة مثنى الحاج علي: من الصراع إلى الإبداع
يمثل فوز مثنى الحاج علي تتويجًا لسنوات من العمل الشاق والتصميم الذي تغذى على تجارب حياتية عميقة. وُلد مثنى في مدينة حمص السورية في أواخر التسعينيات، ونشأ وهو يحمل شغفًا مبكرًا بالرسم والفنون البصرية. لكن اندلاع النزاع في سوريا عام 2011 قلب حياته رأسًا على عقب، مما أجبر عائلته على الفرار من ويلات الحرب بحثًا عن الأمان. كانت رحلتهم محفوفة بالمخاطر والتحديات، وقد وصل مثنى إلى أوروبا كلاجئ، حيث واجه صعوبات جمة تشمل الحواجز اللغوية، الصدمة الثقافية، والضغط النفسي لفقدان وطنه وعائلته. في ظل هذه الظروف القاسية، وجد مثنى في تصميم الأزياء ملاذًا وشكلًا للتعبير عن ذاته، حيث بدأ بتصميم الملابس لنفسه ولأصدقائه، مستمدًا إلهامه من الذاكرة والتراث السوري الغني، بالإضافة إلى تحديات النزوح والأمل في مستقبل أفضل. تمكن مثنى، بعد جهود مضنية، من الالتحاق بإحدى أكاديميات الموضة المرموقة في أوروبا، حيث صقل مهاراته وتعمق في فهم تقنيات التصميم الحديثة، مع الحفاظ على بصمته الثقافية المميزة.
مجموعة "أصداء الصمود" الفائزة ورؤيتها الفنية
قدم مثنى الحاج علي في المسابقة مجموعته الفائزة التي أطلق عليها اسم "أصداء الصمود". هذه المجموعة لم تكن مجرد أزياء، بل كانت قصة بصرية تروي حكايات النزوح والأمل والقدرة البشرية على التكيف والنهوض. استلهم مثنى مجموعته من التراث النسيجي السوري العريق، مزجًا بين نقوش الأقمشة الدمشقية المعقدة والتطريز الشرقي الفاخر مع القصات العصرية والخطوط الانسيابية التي تميز الأزياء الراقية الباريسية. استخدم ألوانًا ترابية وهادئة تعكس طبيعة سوريا وجمالها، مع لمسات من الألوان الزاهية التي ترمز إلى الأمل والتجدد. كما أولى اهتمامًا خاصًا للاستدامة، باستخدام أقمشة طبيعية ومصادر أخلاقية في إنتاج مجموعته. أشادت لجنة التحكيم بالعمق السردي للمجموعة، وبراعة مثنى التقنية في دمج الثقافات، وقدرته على إيصال رسالة قوية ومؤثرة من خلال التصميم.
التأثير والآفاق المستقبلية
لا يمثل فوز مثنى الحاج علي إنجازًا شخصيًا له فحسب، بل يحمل دلالات أوسع نطاقًا وتأثيرًا عميقًا في عدة مستويات:
- على المستوى الشخصي: يفتح هذا الفوز الأبواب أمام مثنى لتعزيز مسيرته المهنية بشكل كبير، حيث سيوفر له فرصًا للتدريب، الإرشاد من شخصيات بارزة في عالم الموضة، والتعاون مع علامات تجارية عالمية، بالإضافة إلى عرض أعماله على منصات دولية رفيعة المستوى.
- للمجتمع اللاجئ: يصبح مثنى رمزًا للأمل والإلهام للعديد من اللاجئين والفنانين المتضررين من النزاعات، مؤكدًا أن الموهبة والإصرار لا تعرفان حدودًا أو ظروفًا قاسية، ويمكن أن تزدهر حتى في أصعب الأوقات.
- لصناعة الأزياء: يعزز هذا الفوز التنوع والشمولية في عالم الموضة، ويضيف صوتًا عربيًا أصيلًا وغنيًا بالتراث الثقافي إلى الحوار العالمي حول التصميم، مما يثري الصناعة بأكملها.
- للتبادل الثقافي: تساهم قصة مثنى في مد جسور التفاهم والتقدير بين الثقافات، وتظهر كيف يمكن للفن والموضة أن يكونا وسيلة فعالة للتقارب والحوار.
يعتزم مثنى الحاج علي في المستقبل تأسيس علامته التجارية الخاصة وتقديم مجموعات جديدة تعكس رؤيته الفنية المتطورة، مع الاستمرار في استكشاف ثيمات الهوية والتراث في أعماله. كما يتطلع إلى دعم وتشجيع المواهب الشابة الأخرى، وخاصة أولئك الذين يأتون من خلفيات مماثلة. قصة مثنى الحاج علي هي شهادة مؤثرة على قوة الإبداع والصمود البشري، وتؤكد أن الأمل يزهر دائمًا حتى في أحلك الظروف، وأن الجمال يمكن أن ينبع من رحم المعاناة ليضيء منصات العالم.




