معرض الخط التونسي: تحدّي نخبوية الفن العريق
يستضيف قلب مدينة تونس العتيقة، وتحديداً كنيسة سانت كروا، الدورة الثانية عشرة من معرض الخطاطين التونسيين، الذي يُختتم فعالياته مع نهاية الشهر الجاري. يمثل هذا المعرض حدثاً ثقافياً بارزاً يجمع نخبة من الخطاطين والفنانين التونسيين، ويقدم منصة لعرض أعمالهم التي تسعى لـ «خلخلة نخبوية فن الخط»، وهو شعار يتردد صداه في أروقة المعرض، مؤكداً على رؤية طموحة لتجديد هذا الفن الأصيل ودمجه في المشهد الفني المعاصر. يبرز في صدارة المعروضات عمل حروفي ضخم للفنان عمر الجمني، الذي يقدم فيه تفسيراً فنياً فريداً لعبارات من مقدمة ابن خلدون، باستخدام الخط المغاربي العريق.

تعد هذه الدورة من المعرض، التي انطلقت مؤخراً، فرصة للجمهور لاكتشاف ثلاثة وستين عملاً فنياً تشكيلياً لـ «عشرات الفنانين»، تعرض تنوعاً في الأساليب والمدارس الخطية، وتجسد الحوار المستمر بين الأصالة والمعاصرة في فن الخط التونسي.
خلفية تاريخية: فن الخط في تونس ومفهوم النخبوية
يمتلك فن الخط العربي في تونس جذوراً عميقة تعود إلى قرون مضت، حيث كان جزءاً لا يتجزأ من النسيج الثقافي والديني للبلاد. شهدت تونس تطوراً مميزاً للخطوط العربية، ولا سيما الخط المغاربي، الذي يميز المخطوطات والوثائق التاريخية في المنطقة. لطالما ارتبط فن الخط بالكتاتيب والمساجد والعلماء، حيث كان يُنظر إليه كفن مقدس يتطلب إتقاناً ودراية عميقة بقواعده الصارمة، مما خلق نوعاً من «النخبوية» التي قصرت ممارسته وإتقانه على فئة معينة من الخطاطين والخبراء. تجلى هذا الارتباط في عدة جوانب تاريخية:
- الارتباط بالدين: كان الخط أداة أساسية لنسخ القرآن الكريم والكتب الدينية، مما أكسبه قدسية خاصة ومكانة رفيعة.
- قواعد صارمة: تتطلب كل مدرسة خطية الالتزام بقواعد هندسية وجمالية محددة، مما جعل تعلمه والإبداع فيه أمراً صعباً ومقصوراً على من يكرسون حياتهم له.
- البيئة الأكاديمية: نشأ كفن مرتبط بالمؤسسات التعليمية التقليدية، مما حدّ من انتشاره الجماهيري وجعله أقل وصولاً للعامة كفن بصري محض، واكتسب صفة «الفن الرفيع» الذي لا يدركه إلا الخبراء.
يهدف معرض الخطاطين التونسيين، عبر دوراته المتعاقبة التي بلغت اثني عشرة دورة، إلى تجاوز هذه الصورة النخبوية، بفتح آفاق جديدة للخط العربي كفن معاصر يمكن أن يتفاعل مع مختلف الأساليب الفنية ويصل إلى شرائح أوسع من الجمهور، دون التخلي عن روحه الأصيلة. هذا المسعى يعكس تحولاً في النظرة إلى الفنون التقليدية، من كونها محفوظة في قوالب جامدة إلى فنون حيوية ومتجددة.
أبرز المعروضات والرؤى الفنية
تستقطب الأنظار في هذه الدورة لوحة الفنان عمر الجمني، وهي عمل ضخم يجسد عبارات من مقدمة ابن خلدون، أحد أبرز المفكرين في التاريخ العربي والإسلامي. يتميز هذا العمل بتوظيف الخط المغاربي، الذي أعاد الجمني إحياءه بلمسة معاصرة، ليعكس عمق الفكرة الخلدونية في سياق فني حديث. استغرق إنجاز العمل وقتاً طويلاً وجهداً كبيراً، وهو ما يتجلى في دقته وتفاصيله الغنية، ليصبح محوراً للتأمل في العلاقة بين الكلمة، التاريخ، والفن. هذا العمل لا يبرز المهارة الخطية فحسب، بل يشكل أيضاً حواراً ثقافياً وفلسفياً بين الأثر الفكري لابن خلدون والإبداع البصري المعاصر.
إلى جانب عمل الجمني، يعرض المعرض ثلاثة وستون عملاً فنياً آخر، تتنوع بين لوحات خطية تقليدية ومعاصرة، وأعمال فنية تشكيلية تستلهم الحرف العربي. هذه التشكيلة الواسعة من الأعمال تظهر التطورات التي يشهدها فن الخط في تونس، وكيف يتفاعل الفنانون مع تراثهم الغني لإنتاج أعمال مبتكرة:
- تنوع الأساليب: يشمل المعرض أعمالاً بالخط الكوفي، النسخ، الثلث، الديواني، بالإضافة إلى تجارب حرة خارجة عن القواعد التقليدية، مما يعكس مرونة الخطاطين في التجريب.
- التفاعل مع الفنون الأخرى: يلاحظ دمج الخط مع الرسم، النحت، وحتى التقنيات الرقمية، مما يوسع من نطاق تعبيره الفني ويجذبه إلى فضاءات فنية جديدة.
- مشاركة أجيال مختلفة: يضم المعرض أعمالاً لخطاطين مخضرمين إلى جانب فنانين شباب، مما يعكس حيوية المشهد الفني وقدرته على استقطاب المواهب الجديدة وتغذية التبادل الفني بين الأجيال.
اختيار كنيسة سانت كروا كموقع للمعرض يحمل دلالات رمزية عميقة تتجاوز مجرد الموقع الجغرافي. فاستضافة معرض لفن الخط العربي، وهو فن ذو ارتباط وثيق بالثقافة الإسلامية، في مكان عبادة مسيحي سابق، يعزز من رسالة الانفتاح الثقافي والحوار بين الحضارات، ويقدم الفن كوسيلة للتواصل الإنساني متجاوزاً الحدود الدينية والجغرافية. هذا الاختيار يؤكد على الرؤية الشاملة للمعرض في كسر الحواجز التقليدية، ليس فقط في الفن نفسه بل في سياقه الثقافي والاجتماعي.
المعرض كمنصة لتحدي النخبوية
يعمل المعرض كمنصة فاعلة لـ «خلخلة نخبوية فن الخط» من خلال عدة محاور رئيسية، فهو لا يكتفي بعرض الأعمال الفنية فحسب، بل يسعى لتأطير حوار ثقافي حول مستقبل الخط العربي ودوره في المجتمع المعاصر، وكيف يمكن أن يتجاوز كونه مجرد حرفة أو فن حِرفي ليصبح جزءاً حيوياً من الفن التشكيلي المعاصر.
تتجسد هذه الرؤية في:
- الوصول الجماهيري: يهدف المعرض إلى جعل فن الخط متاحاً لجمهور أوسع، بما في ذلك غير المتخصصين، من خلال عروض بصرية جذابة وتجارب فنية مبتكرة تشد الانتباه وتسهل التفاعل.
- دعم الابتكار: يشجع المعرض الفنانين على تجاوز القوالب التقليدية، وتقديم مقاربات جديدة تجمع بين أصالة الحرف وحداثة التعبير الفني. هذا التجديد يفتح الباب أمام فنانين جدد بأساليب مختلفة، مما يثري المشهد الفني.
- إعادة تعريف القيمة: يسعى المعرض إلى إظهار أن فن الخط ليس مجرد حرفة يدوية أو فن حِرفي مقيد، بل هو شكل من أشكال الفن التشكيلي المعاصر الذي يحمل رسائل ثقافية وفلسفية عميقة ويستطيع التعبير عن قضايا المجتمع.
- تعزيز الحوار: من خلال جمع فنانين بمدارس وأساليب متنوعة، يساهم المعرض في إثراء النقاش حول تعريف فن الخط ومستقبله في تونس والعالم العربي، وكيف يمكن المحافظة على جذوره مع التطلع نحو التجديد.
إن هذا التحدي للنخبوية لا يعني التخلي عن قواعد الخط وأصوله، بل هو دعوة لتطويره وتوسيع آفاقه، وجعله أكثر حيوية وتفاعلاً مع المتغيرات الفنية والثقافية العالمية، مما يضمن استمراريته وتجدده كفن له مكانته العريقة والمعاصرة في آن واحد.
التأثير الثقافي والمستقبل
يمثل معرض الخطاطين التونسيين إضافة نوعية للمشهد الثقافي التونسي، وله تأثيرات ملموسة على عدة مستويات. فهو لا يقتصر على كونه مجرد عرض فني، بل هو محرك للتفكير والتأمل في هوية الفن العربي والإسلامي في العصر الحديث، وكيف يمكن أن يلهم الأجيال ويساهم في الحراك الثقافي.
- إثراء الهوية الثقافية: يعزز المعرض من مكانة فن الخط كجزء أساسي من الهوية الثقافية التونسية والعربية، ويبرز جمالياته وقدرته على التعبير عن الروح الوطنية والتراث الإنساني.
- إلهام الأجيال القادمة: بتقديم أعمال مبتكرة ومعاصرة، يلهم المعرض الفنانين الشباب للانخراط في هذا الفن، وتطوير أساليبهم الخاصة، ورؤية الخط كفن حيوي ومفتوح على التجريب.
- تعزيز السياحة الثقافية: يمكن لمثل هذه الفعاليات أن تجذب الزوار المهتمين بالفن والثقافة من داخل تونس وخارجها، مما يساهم في تنشيط السياحة الثقافية وإبراز تونس كمركز فني.
- دعم الفنانين: يوفر المعرض منصة مهمة للخطاطين لعرض أعمالهم والتواصل مع الجمهور والنقاد، مما يدعم مسيرتهم الفنية ويشجع على المزيد من الإبداع والإنتاج.
في الختام، يرسخ معرض الخطاطين التونسيين مكانته كحدث محوري يسعى لتحديث فن الخط وتجديد مفاهيمه، ليس فقط كفن بصري بل كرمز ثقافي حي قادر على التفاعل مع القضايا المعاصرة وكسر الحواجز التقليدية. وبهذا، يواصل المعرض رحلته نحو تقديم فن خط أكثر شمولية وديناميكية، يعكس روح تونس الثقافية المتجددة، ويثبت أن الأصالة والمعاصرة يمكن أن تلتقيا لتخلق إبداعات فنية فريدة وذات معنى عميق.



