خلال الأيام القليلة الماضية، شهد مهرجان البحرين السينمائي تكريمًا للفنانة السورية القديرة منى واصف، وهي لحظة احتفائية لم تكن مجرد تكريم لمسيرة فنية عريقة فحسب، بل مناسبة عبرت فيها واصف عن رؤيتها العميقة حول ماهية النجاح الفني والإرث الحقيقي للفنان. وقد سلطت كلماتها الضوء على فلسفة تؤمن بأن حب الجمهور الصادق هو الذي يدوم ويُخلد ذكرى الفنان، متجاوزًا بريق الشهرة وزوال المال.
مسيرة فنية عريقة لسيدة الشاشة السورية
تُعد منى واصف، المولودة في دمشق عام 1942، من أبرز أيقونات الدراما والسينما العربية، وقد كرست حياتها للفن لأكثر من ستة عقود. بدأت مسيرتها الفنية في ستينيات القرن الماضي، لتصعد بسرعة سلم الشهرة بأدوارها المتنوعة والقوية التي جسدت من خلالها شخصيات نسائية مؤثرة ومعقدة. من خشبة المسرح إلى الشاشة الفضية والتلفزيونية، قدمت واصف مئات الأعمال التي حفرت اسمها في ذاكرة الجمهور العربي. من أبرز أعمالها:
- دورها في فيلم «الرسالة» (1976) للمخرج مصطفى العقاد.
 - أعمالها الدرامية الخالدة مثل «باب الحارة»، و«الهيبة»، و«الولادة من الخاصرة».
 - تميزها في أدوار الأم الحكيمة والقوية، والمرأة الصامدة في وجه التحديات.
 
إن إسهاماتها الكبيرة لم تقتصر على التمثيل فحسب، بل تعدت لتشمل دورها كرمز للمرأة السورية والعربية القوية والمثابرة، مما أكسبها لقب «سيدة الشاشة السورية» ومكانة مرموقة في قلوب الملايين.
سياق التكريم في مهرجان البحرين السينمائي
يمثل مهرجان البحرين السينمائي منصة ثقافية وسينمائية بارزة في المنطقة، ويهدف إلى دعم وتطوير صناعة السينما العربية، بالإضافة إلى الاحتفاء بالمواهب الفنية والإنجازات السينمائية. يأتي تكريم منى واصف في هذا المهرجان تتويجًا لمسيرتها الطويلة والحافلة بالإنجازات، واعترافًا بتأثيرها العميق في المشهد الفني العربي. إن اختيار شخصية بحجم واصف لتكريمها يعكس التقدير الكبير لتاريخها الفني العريق، ويؤكد على مكانتها كقيمة فنية لا يمكن تجاوزها، ليس فقط في سوريا بل في العالم العربي بأسره. يهدف المهرجان من خلال هذه التكريمات إلى ربط الأجيال الجديدة من صناع الأفلام بالعمالقة الذين مهدوا الطريق لهم.
جوهر رسالة منى واصف: الحب الدائم مقابل الشهرة الزائلة
في تصريحاتها التي جاءت عقب تكريمها، عبرت منى واصف عن امتنانها العميق للمهرجان والجمهور، لكنها اختارت أن تذهب أبعد من مجرد كلمات الشكر التقليدية. فقد أكدت أن «الشهرة والمال بيروحوا.. والناس تذكر الفنان بعد وفاته بسبب حبهم له». هذه العبارة تحمل في طياتها فلسفة حياة وفنية متكاملة، حيث ترى واصف أن البريق اللحظي للشهرة والثراء المادي مهما كان عظيمًا، هو أمر زائل بطبعه. على النقيض، فإن العلاقة الحقيقية التي يبنيها الفنان مع جمهوره، والمبنية على الصدق الفني والتأثير الروحي، هي التي تضمن له الخلود في الذاكرة الجمعية. هذه العلاقة ليست مجرد إعجاب عابر، بل هي «حب» يتجاوز الأداء التمثيلي إلى تقدير الروح والجهد والعطاء الذي يقدمه الفنان طوال حياته.
تُعد هذه الكلمات بمثابة درس للأجيال الجديدة من الفنانين، مفاده أن القيمة الحقيقية للفن لا تقاس بعدد المتابعين أو حجم الثروة، بل بمدى القدرة على لمس قلوب الناس وترك بصمة لا تُمحى في وعيهم الجماعي. إن الفنان الحقيقي، في رؤية واصف، هو من يستثمر في بناء هذا الحب، لأنه الضمان الوحيد لذكرى تدوم بعد غياب الجسد.
دلالات التكريم وأهمية الرسالة
يحمل تكريم منى واصف في مهرجان البحرين السينمائي، وما تبعه من تصريحات، دلالات عميقة على عدة مستويات:
- بالنسبة لمنى واصف: يمثل التكريم اعترافًا دوليًا جديدًا بمكانتها الفنية، ويعزز إرثها كفنانة لا تزال تُلهم وتُعلم. رسالتها هذه تضيف بعدًا إنسانيًا وفلسفيًا لتكريمها.
 - بالنسبة للمهرجان: يعكس اختيارها وتصريحاتها اللاحقة، التزام المهرجان ليس فقط بالاحتفاء بالنجاح التجاري، بل بالقيم الفنية العميقة والرسائل الإنسانية التي يحملها الفن.
 - بالنسبة للصناعة الفنية عمومًا: تُعد كلمات واصف تذكيرًا قويًا بأن الجوهر الحقيقي للفن يكمن في التواصل الإنساني والتأثير الروحي، وليس فقط في المجد العابر. تشجع هذه الرسالة الفنانين على التركيز على الأصالة والجودة والعطاء.
 
إن تأملات منى واصف حول الشهرة والحب الإنساني تظل صدىً للحكمة الفنية التي طالما وجهت مسيرة عمالقة الفن. في عالم يتسارع نحو السطحية أحيانًا، تأتي كلماتها لتؤكد أن القيمة الأكثر ثباتًا، والأكثر قدرة على تحدي الزمن، هي ذلك الارتباط الوجداني الخالص الذي يربط الفنان بجمهوره، والذي وحده يضمن أن تظل روحه حية في القلوب والعقول حتى بعد أن تغادر الأضواء.





