نظام إقامة تحت الماء مبتكر يمهد لبقاء العلماء لأسابيع في الأعماق
كشفت شركة DEEP البريطانية النقاب عن مركبة "فانغارد" (Vanguard) المبتكرة، التي تمثل خطوة نوعية نحو تعزيز الوجود البشري المطوّل في أعماق المحيطات. صُممت هذه المركبة لتكون بمثابة مسكن تحت الماء، مما يتيح للعلماء والباحثين قضاء أسابيع متواصلة تحت سطح البحر لإجراء دراساتهم وأبحاثهم المتخصصة، بدلاً من الاقتصار على بضع ساعات كما هو الحال في معظم البعثات الاستكشافية الحالية. وقد جرى الكشف عن النموذج الأولي لهذه المنصة الطموحة يوم الأربعاء الماضي في ميامي بولاية فلوريدا الأمريكية، وذلك في حظيرة مخصصة لعرض التقنيات البحرية الجديدة.
تعد "فانغارد" بتحويل جذري لمفهوم استكشاف المحيطات، حيث تفتح آفاقاً جديدة أمام علماء البحار لتعميق فهمهم للبيئات البحرية المعقدة، بدءاً من دراسة الشعاب المرجانية وصولاً إلى البحث في النظم البيئية العميقة التي لم تُكتشف بعد بشكل كامل. هذا الابتكار يمثل استجابة للحاجة المُلحة لتمكين العلماء من الانغماس في بيئاتهم البحثية لفترات طويلة، وهو ما كان يمثل تحدياً كبيراً في عقود سابقة.
الخلفية والأهمية العلمية
لطالما شكلت أعماق المحيطات حدوداً غير مستكشفة للإنسان، حيث يُقدر أن أكثر من 80% من قاع البحر لا يزال مجهولاً. القيود المفروضة على المدة الزمنية التي يمكن للغواصين أو الغواصات المأهولة قضائها تحت الماء قد أعاقت بشكل كبير وتيرة الاكتشاف العلمي. فمعظم البعثات تقتصر على غوصات قصيرة المدى لا تسمح بالرصد المستمر أو إجراء التجارب التي تتطلب وقتاً طويلاً. حتى تقنيات الغوص المشبع، التي تسمح بالبقاء لعدة أيام، تتطلب بنية تحتية معقدة وتخطيطاً دقيقاً يجعلها أقل مرونة.
في هذا السياق، تبرز أهمية "فانغارد" كحل يكسر حواجز الزمن. فبقدرتها على إيواء العلماء لأسابيع، ستتيح لهم مراقبة سلوك الكائنات البحرية الطبيعي دون إزعاج، ودراسة التغيرات البيئية بمرور الوقت، وإجراء تجارب معقدة تتطلب إقامة طويلة. وقد صرح نورمان سميث، كبير مسؤولي التكنولوجيا والمهندس الرئيسي في مشروع "فانغارد"، لوكالة الأنباء الفرنسية بأن "هناك مناطق في محيطات العالم لم تُستكشف بعد على هذه الأعماق، وإتاحتها للغواصين سيفتح آفاقاً جديدة تماماً في مجال العلوم". هذا الطموح يعكس رؤية DEEP في تمكين جيل جديد من الاستكشاف البحري المباشر والمستدام.
يستند هذا الابتكار إلى إرث من المحاولات البشرية السابقة لإنشاء مساكن تحت الماء، مثل مشروع SEALAB الأمريكي في الستينيات وقاعدة أكواريوس للشعاب المرجانية (Aquarius Reef Base) التي ما زالت تعمل حتى الآن. ومع ذلك، تسعى "فانغارد" إلى تجاوز هذه التجارب من حيث المرونة في التشغيل، والقدرة على البقاء لفترات أطول، وإمكانية الوصول إلى أعماق أكبر في المستقبل، مما يجعلها منصة بحثية أكثر تطوراً وتكيفاً مع احتياجات البحث العلمي المعاصر.
تفاصيل مركبة فانغارد المبتكرة
تتميز مركبة "فانغارد" بتصميمها المعياري الفريد الذي يتألف من ثلاثة أقسام رئيسية تعمل بتناغم: غرفة المعيشة، ومركز الغوص، والقاعدة التحت مائية. هذه البنية المتقنة مصممة لتوفير بيئة آمنة ومريحة للباحثين مع دعم مهامهم العلمية.
- غرفة المعيشة: يبلغ طول هذا الجزء الأساسي 12 متراً وعرضه 3.7 أمتار، وهو مصمم ليضم ما يصل إلى أربعة أشخاص. يوفر مساحة متكاملة للنوم وتناول الطعام والعمل، وقد تم تصميمه خصيصاً لمقاومة ضغوط المياه الهائلة في أعماق المحيط، مما يضمن سلامة وراحة الموجودين بداخله على مدار الساعة.
- مركز الغوص: يعد هذا القسم بمثابة نقطة دخول وخروج للغواصين، وهو متصل مباشرة بالقاعدة تحت الماء. يسهل مركز الغوص عمليات النزول والصعود بأمان ويسمح للباحثين بالانتقال بسهولة بين بيئة المركبة المضغوطة والبيئة الخارجية.
- القاعدة التحت مائية: تثبت هذه القاعدة في قاع البحر، وتوفر استقراراً هيكلياً للمركبة بأكملها. كما تعمل كمرسى يحمي "فانغارد" من تأثيرات الأمواج والتيارات البحرية والعواصف، مما يضمن بيئة عمل مستقرة وغير متأثرة بالظروف السطحية.
لضمان استمرار عمليات "فانغارد"، تم تصميم هيكل عائم على سطح الماء يعمل كمنصة دعم حيوية. تتولى هذه المنصة مهمة نقل الهواء المضغوط إلى المركبة، وتزويدها بالطاقة الكهربائية اللازمة لتشغيل أنظمتها الحيوية، وتسهيل التواصل مع العالم الخارجي. هذا الربط المستمر بالسطح يضمن توفير الموارد الضرورية للبقاء المطوّل تحت الماء والحفاظ على خطوط اتصال مفتوحة مع فرق الدعم.
في الوقت الحالي، تقتصر قدرة "فانغارد" على العمل في عمق لا يتعدى 20 متراً تحت سطح الماء. هذا العمق، الذي يمكن الوصول إليه بسهولة عن طريق الغوص، يسمح بإجراء الاختبارات الأولية وتدريب الأطقم. ومع ذلك، تعمل شركة DEEP على تطوير نماذج أولية متقدمة ستكون قادرة على الوصول إلى أعماق تصل إلى 200 متر. يمثل تحقيق هذا الهدف تحدياً هندسياً كبيراً يتطلب مواد وتقنيات متطورة لتحمل الضغوط الهائلة على تلك الأعماق، ولكنه سيفتح أبواباً جديدة كلياً للاستكشاف العلمي.
التطبيقات الأولية والتأثير المستقبلي
من المتوقع أن يتم نشر مركبة "فانغارد" لأول مرة خلال الأسابيع القليلة المقبلة قبالة سواحل فلوريدا. وتأمل شركة DEEP أن يتمكن العلماء من استخدامها في تنفيذ مشاريع طويلة الأمد تهدف إلى الحفاظ على البيئة البحرية، مثل برامج استعادة الشعاب المرجانية المتضررة ومراقبة صحة النظم البيئية الساحلية.
أما على المدى الأوسع، فإن إمكانيات "فانغارد" تمتد لتشمل مجموعة واسعة من التطبيقات العلمية التي ستحدث ثورة في فهمنا للمحيطات. يمكن للعلماء استخدامها لدراسة سلوك الكائنات البحرية في بيئاتها الطبيعية لفترات غير مسبوقة، مما يفتح المجال لاكتشاف أنواع جديدة وفهم آليات التكيف في الأعماق. كما ستوفر المنصة فرصة لإجراء أبحاث متقدمة في علم المحيطات والجغرافيا البحرية، بما في ذلك رسم خرائط قاع البحر بدقة أعلى، ودراسة التيارات المحيطية، وتحليل تأثيرات تغير المناخ على النظم البيئية البحرية.
هذا الوجود البشري المستمر تحت الماء سيساهم أيضاً في تطوير تقنيات جديدة للرصد البيئي وجمع البيانات، وربما يقود إلى اكتشافات ذات أهمية طبية أو صناعية من الكائنات الدقيقة والموارد الموجودة في أعماق البحار. إن القدرة على إجراء بحث مباشر طويل الأمد ستعزز بشكل كبير قدرتنا على صياغة استراتيجيات فعالة للحفاظ على المحيطات وإدارتها المستدامة.
التحديات والآفاق المستقبلية
على الرغم من الوعود الكبيرة التي تحملها "فانغارد"، تواجه الشركة تحديات هندسية ولوجستية كبيرة. يتطلب الحفاظ على نظام دعم الحياة لمثل هذه الفترات الطويلة تحت الماء إدارة دقيقة للطاقة، وأنظمة معالجة الهواء والمياه المتقدمة، وإدارة النفايات. كما أن لوجستيات إعادة الإمداد وتبديل الطواقم في بيئة تحت الماء تتطلب تخطيطاً وتنفيذاً بالغ الدقة. وتبقى سلامة الأطقم هي الأولوية القصوى، مما يستلزم بروتوكولات أمان صارمة وتدريبات مكثفة.
تتمثل رؤية DEEP طويلة المدى في جعل الوصول إلى أعماق المحيطات أكثر سهولة وفعالية لمجتمع البحث العلمي العالمي. إذا نجحت "فانغارد" في تحقيق أهدافها، فقد تمهد الطريق لشبكة من محطات البحث تحت الماء، مما يحول المحيطات إلى مختبرات حية واسعة. هذا الإنجاز قد يدشن عصراً جديداً من الاكتشافات البحرية، لا يقل أهمية عن الاستكشاف الفضائي، ويقرب البشرية خطوة نحو فهم أعمق للعالم الأزرق الذي يغطي معظم كوكبنا.





