تحول الغرافيتي في أفريقيا: من اتهامات التخريب إلى مكانة فنية ودعم رسمي

شهدت القارة الأفريقية خلال العقدين الماضيين تحولاً جذرياً في نظرتها لفن الغرافيتي، فبعد أن كان يُصنف في السابق غالباً كتخريب للممتلكات العامة ومظهراً من مظاهر الفوضى، أصبح الآن يُنظر إليه كشكل فني مشروع ومعترف به، بل ويتلقى دعماً متزايداً من جهات مختلفة. هذا التحول يعكس ديناميكية المشهد الثقافي والاجتماعي في القارة، ويسلط الضوء على الدور المتنامي للفن في التعبير عن القضايا المجتمعية وتجميل الفضاءات الحضرية.

الخلفية التاريخية والنظرة الأولية

ظهر الغرافيتي في أفريقيا، كما في أجزاء أخرى من العالم، غالباً كرد فعل عفوي على الظروف الاجتماعية والسياسية. في بداياته، كان يُستخدم كوسيلة للتعبير عن الاحتجاج، أو لنشر رسائل سياسية خلال فترات الصراع والاضطرابات، أو حتى مجرد تحديد للملكية أو إعلانات بسيطة. ومع ذلك، لم يحظَ هذا الفن بتقبل واسع من قبل السلطات أو عامة الجمهور. كانت الجدران المخطوطة تعتبر تشويهاً للمدن ورموزاً للإهمال والتدهور، مما أدى في كثير من الأحيان إلى ملاحقة الفنانين ومحاولات مستمرة لإزالة أعمالهم.

تميزت هذه الفترة بتصادم واضح بين الفنانين الذين رأوا في الجدران لوحات مفتوحة للتعبير، وبين المجتمعات التي كانت تفضل الحفاظ على النظافة والترتيب التقليدي للمساحات العامة. كانت غالبية الأعمال تتم في الخفاء، وفي أوقات متأخرة من الليل، مما أضفى عليها طابعاً سرياً وشبه جنائي، وعزز من فكرة أنها نشاط تخريبي لا فن إبداعي.

نقطة التحول: من التهميش إلى الاعتراف

بدأت هذه النظرة السلبية تتغير تدريجياً مع مطلع الألفية الجديدة، وتسارعت وتيرة هذا التغير بشكل خاص خلال السنوات العشر الماضية. ساهمت عدة عوامل في هذا التحول:

الحركات الاجتماعية والسياسية: لعب الغرافيتي دوراً بارزاً في التعبير عن المطالب الشعبية خلال حركات الربيع العربي، وخاصة في مصر وتونس. أصبحت الجدران ساحات مفتوحة للنقاش السياسي والاجتماعي، مما أجبر المجتمعات والسلطات على الاعتراف بقوته التأثيرية كشكل من أشكال الإعلام البديل.
نمو الوعي الفني والثقافي: بدأ عدد متزايد من الفنانين الأفارقة في صقل مهاراتهم في فن الغرافيتي ورفع مستواه الفني، ودمجوا فيه عناصر من الثقافة الأفريقية الأصيلة، مما جعله أكثر قبولاً وارتباطاً بالهوية المحلية.
المهرجانات والمعارض الفنية: شهدت مدن أفريقية كبرى مثل جوهانسبرغ في جنوب أفريقيا، وداكار في السنغال، والدار البيضاء في المغرب، ومناطق أخرى، تنظيم مهرجانات ومعارض فنية مخصصة لفن الشارع. هذه الفعاليات قدمت منصات للفنانين لعرض أعمالهم بشكل شرعي وساعدت في تغيير التصور العام للغرافيتي من خلال إظهار إمكاناته الفنية والجمالية.
الدعم المؤسسي والحكومي: في بعض الدول، بدأت الحكومات والبلديات والمنظمات الثقافية في تبني الغرافيتي كأداة لتجميل المدن، وتشجيع السياحة، وحتى كوسيلة للتوعية بقضايا الصحة العامة أو الحفاظ على البيئة. تحولت بعض المشاريع من مجرد السماح إلى الدعم المالي واللوجستي.

المواضيع والرسائل: مرآة للمجتمع الأفريقي

لم يعد الغرافيتي في أفريقيا مجرد خطوط عشوائية، بل تطور ليحمل رسائل عميقة ومتنوعة تعكس تعقيدات المجتمعات الأفريقية. تتضمن المواضيع الشائعة:

التعليق الاجتماعي والسياسي: يستمر الفنانون في استخدام الجدران للتعبير عن وجهات نظرهم حول الفساد، والعدالة الاجتماعية، وحقوق الإنسان، والتحديات الاقتصادية، مما يجعل الغرافيتي صوتاً قوياً للمهمشين.
الهوية الثقافية والتراث: يعمد العديد من الفنانين إلى دمج الزخارف والرموز الأفريقية التقليدية، والقصص الشفهية، والشخصيات التاريخية في أعمالهم، مما يساهم في الحفاظ على التراث الثقافي وتعزيز الهوية الأفريقية المعاصرة.
التوعية والتثقيف: يُستخدم الغرافيتي بشكل متزايد في حملات التوعية الصحية (مثل الوقاية من فيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز أو الأمراض المعدية)، والحملات البيئية، وتشجيع التعليم، مما يبرز دوره كأداة للتنمية المجتمعية.
تجميل المدن وإحياء المساحات: تحولت العديد من الجدران الباهتة والمباني المهجورة إلى أعمال فنية نابضة بالحياة تضفي جمالاً على الأحياء الحضرية وتغير من تجربة العيش فيها، مما يساهم في الشعور بالفخر بالمساحات العامة.

التحديات والآفاق المستقبلية

على الرغم من الاعتراف المتزايد، لا يزال فن الغرافيتي في أفريقيا يواجه تحديات عديدة. من أبرز هذه التحديات قضية التمويل، فغالباً ما يعتمد الفنانون على مبادراتهم الشخصية أو دعم محدود. كما تظل هناك حاجة إلى أطر قانونية واضحة تنظم هذا الفن، وتوفر مساحات شرعية للفنانين دون المساس بحريتهم الإبداعية. إضافة إلى ذلك، يبقى الجدل قائماً بين الحفاظ على الطبيعة العفوية والتمردية للغرافيتي، وبين اندماجه في السياقات التجارية أو الرسمية، والذي قد يفقده بعضاً من جوهره.

مع ذلك، فإن الآفاق المستقبلية تبدو واعدة. فمع تزايد الوعي بأهمية الفن في التنمية الحضرية والاجتماعية، ومع ظهور جيل جديد من الفنانين الموهوبين، من المرجح أن يستمر الغرافيتي في أفريقيا في التطور والتأثير. من المتوقع أن يشهد المزيد من التكامل مع السياحة الثقافية، ودوراً أكبر في برامج التنمية الحضرية، وربما حتى ظهور سوق فني خاص به، مما يرسخ مكانته كقوة فنية واجتماعية لا يستهان بها في القارة.

لقد أثبت فن الغرافيتي في أفريقيا قدرته على تجاوز الصور النمطية، والتحول من كونه عملاً تخريبياً سرياً إلى تعبير فني علني ومقدر، يساهم بفاعلية في تشكيل الهوية البصرية والثقافية للمدن الأفريقية المعاصرة. ويُظهر هذا التحول مرونة المجتمعات الأفريقية وقدرتها على احتضان أشكال التعبير الفني الجديدة التي تعكس واقعها المتغير.