فن الغرافيتي في أفريقيا: من تهمة التخريب إلى الاعتراف والدعم
شهدت السنوات الأخيرة تحولاً جذرياً في نظرة المجتمعات الأفريقية والسلطات المحلية إلى فن الغرافيتي، فبعد أن كان يُنظر إليه كعمل تخريبي أو شكل من أشكال التعبير الهامشي والمثير للجدل، بات يحظى باعتراف متزايد ودعم كبير في العديد من الدول. هذا التحول يعكس تطوراً أعمق في فهم دور الفن في الفضاءات العامة وقدرته على إعادة تشكيل الهوية الحضرية والمساهمة في الحوار الاجتماعي والثقافي.

الجذور والوصمة الأولى
تاريخياً، ارتبط فن الغرافيتي في أفريقيا، شأنه شأن العديد من مناطق العالم، بالتمرد الشبابي، أو كشكل من أشكال الاحتجاج السياسي والاجتماعي، أو حتى كعلامات لمجموعات وعصابات معينة في الأحياء الفقيرة والمهمشة. كانت الجدران والأماكن العامة تُعتبر ملكية عامة أو خاصة، وأي رسم عليها دون إذن كان يُصنف ضمن أعمال التخريب والتعدي على الممتلكات. وقد أدت هذه الوصمة إلى ملاحقة الفنانين واعتبار أعمالهم جريمة تستوجب العقاب، مما دفع بالكثيرين للعمل في الخفاء أو التوقف عن ممارسة هذا الفن.
في العديد من المدن الأفريقية، مثل القاهرة وجوهانسبرغ وداكار، بدأ ظهور الغرافيتي في السبعينيات والثمانينيات كصرخة صامتة تعكس واقعاً سياسياً واجتماعياً مضطرباً. لكنه ظل محاطاً بسياج من الرفض الرسمي والشعبي الذي كان يربطه بالفوضى ونقص الاحترام للجماليات الحضرية التقليدية.
نقطة التحول: الفن الهادف والاحترافية
بدأت النظرة تتغير تدريجياً مع ظهور فنانين موهوبين تمكنوا من تحويل الكتابة والرسومات العشوائية إلى أعمال فنية ذات مغزى عميق وجمالية بصرية لافتة. هؤلاء الفنانون لم يكتفوا بالاحتجاج أو التعبير عن السخط، بل تناولوا قضايا مجتمعية ملحة مثل التوعية الصحية، حقوق الإنسان، البيئة، وحتى الاحتفاء بالتراث الثقافي الأفريقي. أصبح الغرافيتي أداة قوية لرواية القصص المحلية، ومحاكاة الهوية الأفريقية المتنوعة، وعرضها للعالم بأسلوب معاصر وجذاب.
ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي بشكل كبير في تسليط الضوء على هذه الأعمال الفنية ووصولها إلى جمهور أوسع، مما كسر حواجز الفهم والتقبل. بدأت المجتمعات ترى في الغرافيتي ليس مجرد صباغة على الجدران، بل فناً يستحق التقدير، يُضفي لمسة جمالية على المدن ويحمل رسائل قيمة.
موجة الاعتراف والدعم المؤسسي
شهد العقد الماضي تصاعداً ملحوظاً في دعم فن الغرافيتي من قبل الحكومات، والمنظمات غير الحكومية، والقطاع الخاص في عدة دول أفريقية. وباتت مدن مثل كيب تاون وأكرا وأبيدجان تشهد مشاريع واسعة النطاق لتحويل الجدران العارية إلى لوحات فنية عملاقة.
- المبادرات الحكومية: قامت بعض البلديات بتخصيص مساحات قانونية لفناني الغرافيتي، بل وقدمت التمويل لمشاريع تجميل المدن. أدركت السلطات أن فن الشارع يمكن أن يكون أداة فعالة في التنمية الحضرية وجذب السياح.
 - المهرجانات والفعاليات الثقافية: تنظم العديد من الدول الآن مهرجانات خاصة بفن الشارع، مثل مهرجان الفن العام الدولي في جنوب أفريقيا، الذي يجمع فنانين محليين ودوليين لإنشاء جداريات ضخمة ويجذب آلاف الزوار. هذه المهرجانات تساهم في تثقيف الجمهور وتغيير النظرة السلبية.
 - دعم القطاع الخاص والمنظمات غير الحكومية: تتعاون الشركات والعلامات التجارية مع فناني الغرافيتي لإطلاق حملات تسويقية أو رعاية مشاريع فنية مجتمعية. كما تعمل المنظمات غير الحكومية على توفير التدريب وورش العمل للشباب لتعليمهم هذا الفن وتوجيه طاقتهم الإبداعية بشكل إيجابي.
 - صعود المعارض الفنية: لم يعد الغرافيتي مقتصراً على الشارع فقط، بل بدأ ينتقل إلى صالات العرض والمتاحف، مما يضفي عليه شرعية أكبر ويعرض أعمال الفنانين على نطاق أوسع.
 
التأثير الاجتماعي والاقتصادي
لم يقتصر تأثير هذا التحول على الجانب الفني فحسب، بل امتد ليشمل أبعاداً اجتماعية واقتصادية هامة:
- التجديد الحضري: ساهمت الجداريات في تحويل الأحياء التي كانت تُعتبر مهملة إلى مراكز جذب سياحي وثقافي، مما يزيد من قيمة العقارات ويحفز الاستثمار.
 - التمكين الشبابي: يوفر فن الغرافيتي فرصاً للشباب الموهوب لإظهار إبداعاتهم وكسب الرزق، مما يقلل من البطالة ويقدم بديلاً عن الأنشطة السلبية.
 - تعزيز الهوية الثقافية: يعكس فن الشارع التنوع الثقافي الغني للقارة الأفريقية، ويمزج بين التقنيات الحديثة والرموز التقليدية، مما يعزز الفخر بالهوية المحلية.
 - التوعية الاجتماعية: كأداة بصرية قوية، يُستخدم الغرافيتي لنشر رسائل توعوية حول قضايا الصحة العامة، التعليم، حقوق المرأة، وغيرها من التحديات المجتمعية.
 
التحديات والآفاق المستقبلية
على الرغم من التقدم المحرز، لا يزال فن الغرافيتي في أفريقيا يواجه تحديات. ففي بعض المناطق، لا تزال القوانين غامضة أو صارمة تجاه فن الشارع غير المرخص، مما يعرض الفنانين للمخاطر. كما أن قضية التمويل المستدام والحفاظ على الأعمال الفنية المعرضة للعوامل الجوية تظل محورية.
ومع ذلك، تبدو الآفاق المستقبلية واعدة. فمن المتوقع أن يستمر هذا الفن في النمو والتطور، ليصبح جزءاً لا يتجزأ من النسيج الثقافي والحضري للمدن الأفريقية. ومع تزايد الوعي بأهميته، سيشهد الغرافيتي المزيد من الدعم والاندماج في برامج التنمية، ليؤكد مكانته كقوة إيجابية ومحفزة للتغيير والجمال في القارة السمراء.





