إيطاليا تسجل أدنى معدل للمواليد في تاريخها الحديث
كشفت بيانات رسمية صادرة مؤخراً عن استمرار التدهور في معدل المواليد بإيطاليا، حيث وصل عدد المواليد الجدد إلى أدنى مستوياته على الإطلاق في تاريخ البلاد الحديث. هذه الأرقام، التي تعكس الوضع الديموغرافي لعام 2023، تضع إيطاليا أمام تحدٍ وجودي يهدد استقرارها الاقتصادي والاجتماعي على المدى الطويل.

تُعد قضية انخفاض المواليد من أبرز الملفات التي تواجه الحكومة الإيطالية والمجتمع ككل، إذ تُشير الإحصائيات إلى أن عدد المواليد قد تراجع إلى أقل من 390 ألف مولود خلال عام 2023، مسجلاً بذلك انخفاضاً مستمراً للعام الخامس عشر على التوالي. هذا التراجع المتسارع يفاقم أزمة الشيخوخة السكانية في البلاد، التي تُعرف بكونها واحدة من أقدم الدول من حيث متوسط أعمار السكان في أوروبا والعالم.
خلفية المشكلة وتطوراتها
لم تكن ظاهرة انخفاض المواليد في إيطاليا وليدة اليوم، بل هي نتاج عقود من التحولات الاجتماعية والاقتصادية. بدأت معدلات الخصوبة في الانخفاض بشكل ملحوظ منذ السبعينيات، لتصل حالياً إلى نحو 1.2 طفل لكل امرأة، وهو معدل يقل بكثير عن 2.1 طفل اللازم للحفاظ على استقرار حجم السكان دون الاعتماد على الهجرة. لطالما كانت إيطاليا، إلى جانب دول أوروبية أخرى مثل إسبانيا واليونان، في طليعة الدول التي تعاني من هذه الأزمة الديموغرافية.
تعكس البيانات الأخيرة التي نشرها المعهد الوطني للإحصاء (ISTAT) استمرار هذا الاتجاه المقلق. ففي عام 2022، بلغ عدد المواليد 393 ألفاً، وهو رقم كان يُعتقد أنه قاع تاريخي، لكن أرقام 2023 أظهرت تراجعاً إضافياً، مما يؤكد أن البلاد لم تصل بعد إلى نقطة الاستقرار أو الانتعاش في هذا المؤشر الحيوي.
الأسباب الرئيسية وراء الانخفاض
تتضافر عدة عوامل معقدة لتفسير هذا الانخفاض المستمر في معدلات المواليد:
- العوامل الاقتصادية: ارتفاع تكاليف المعيشة، صعوبة الحصول على وظائف مستقرة للشباب، وارتفاع أسعار السكن تجعل من قرار الإنجاب عبئاً مالياً كبيراً على الأسر الشابة. البطالة بين الشباب في إيطاليا لا تزال مرتفعة نسبياً، مما يؤخر الاستقلال المالي وتكوين الأسر.
- التغيرات الاجتماعية والثقافية: تزايد مشاركة المرأة في سوق العمل وتأخر سن الزواج والإنجاب أصبحا ظاهرتين شائعتين. تسعى النساء الإيطاليات بشكل متزايد لتحقيق طموحاتهن المهنية قبل التفكير في الأمومة، وغالباً ما يؤدي ذلك إلى تقليل عدد الأطفال أو تأجيل الإنجاب إلى سن متأخرة.
- نقص الدعم الحكومي: على الرغم من بعض المبادرات، يرى العديد من الإيطاليين أن الدعم المقدم للأسر من حيث رعاية الأطفال بأسعار معقولة، والإجازات الوالدية، والحوافز الضريبية لا يزال غير كافٍ مقارنة بالدول الأخرى التي تشهد معدلات مواليد أعلى نسبياً.
- الشعور بعدم اليقين: تساهم الأزمات المتتالية، سواء كانت اقتصادية أو صحية (مثل جائحة كوفيد-19)، في تعزيز شعور عام بعدم اليقين، مما يجعل الأسر أكثر تردداً في اتخاذ قرار الإنجاب.
الآثار والتداعيات المستقبلية
تداعيات الانخفاض الديموغرافي عميقة ومتعددة الأوجه، وتؤثر على كل جانب من جوانب الحياة في إيطاليا:
- على المستوى الاقتصادي: يتسبب نقص المواليد في شيخوخة القوى العاملة وتقلصها، مما يهدد الإنتاجية والنمو الاقتصادي. كما يفرض ضغوطاً هائلة على أنظمة التقاعد والرعاية الصحية التي تعتمد على مساهمات جيل الشباب لدعم كبار السن. يُتوقع أن تشهد إيطاليا نقصاً حاداً في أعداد دافعي الضرائب والعمال المهرة خلال العقود القادمة.
- على المستوى الاجتماعي: تؤدي شيخوخة السكان إلى تغييرات في النسيج الاجتماعي، مع تزايد نسبة كبار السن وتقلص دور الشباب. قد يؤدي ذلك إلى نقص في الابتكار وتباطؤ في التكيف مع التحديات الجديدة. كما أن هناك مخاوف بشأن الحفاظ على التقاليد الثقافية مع تقلص حجم الأسر.
- على المستوى السياسي: تُشكل الأزمة الديموغرافية ضغطاً مستمراً على الحكومات لإيجاد حلول مستدامة، سواء من خلال تعزيز الإنجاب أو إدارة الهجرة بفعالية لسد الفجوات السكانية والاقتصادية.
الاستجابة الحكومية والمبادرات المقترحة
أدركت الحكومات الإيطالية المتعاقبة خطورة هذه الأزمة، وقدمت مبادرات مختلفة لمعالجتها. تولي حكومة جورجيا ميلوني الحالية اهتماماً خاصاً لهذه القضية، حيث أطلقت سياسات تهدف إلى دعم الأسر وتحفيز الإنجاب. تشمل هذه المبادرات:
- تقديم حوافز مالية للأسر التي تنجب أطفالاً، مثل «علاوة الطفل الوحيد» (assegno unico e universale) التي تُدفع شهرياً للأسر.
- توسيع نطاق توفير مراكز رعاية الأطفال بأسعار معقولة وزيادة عدد الحضانات.
- إصلاحات ضريبية تهدف إلى تخفيف العبء المالي على الأسر الكبيرة.
- تشجيع الإجازات الوالدية المرنة وتهيئة بيئة عمل أكثر دعماً للأمهات والآباء.
نظرة مقارنة ودولية
ليست إيطاليا وحدها التي تواجه تحدي انخفاض المواليد؛ فالعديد من الدول المتقدمة، وخصوصاً في أوروبا الشرقية والجنوبية، تشهد اتجاهات مماثلة. ومع ذلك، تُعد إيطاليا في طليعة الدول التي تُعاني من هذه الأزمة، وتتجاوز معدلات الانخفاض فيها نظيراتها في بعض الدول الأخرى. تسعى هذه الدول للتعلم من تجارب بعضها البعض، ولكن لا يزال هناك طريق طويل أمام إيجاد حلول شاملة وفعالة تُمكن من عكس هذا الاتجاه أو التكيف معه.
في الختام، يُشكل انخفاض معدل المواليد في إيطاليا أزمة وطنية تتطلب استجابة شاملة ومستمرة. إن مستقبل البلاد الاقتصادي والاجتماعي يعتمد بشكل كبير على قدرتها على معالجة هذا التحدي الديموغرافي المعقد، سواء من خلال تعزيز الإنجاب المحلي أو من خلال سياسات هجرة مدروسة تُسهم في تجديد القوى العاملة وتحقيق التوازن السكاني.





